د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

الحديث مستمر عن داعيات التقاعد على الروح والجسد. سهّل علينا رصدها مع جسد مرئي وملموس. الجسد لا يتجدد. أما الروح فقالت العرب فيها أشعارًا بأنها لا تشيخ. الجسد في نهاية المطاف، وبعد بلوغه الستين عامًا، يُحال إلى التقاعد.. ليبدأ العيش قاعدًا في إحدى زوايا البيت، أو المستشفى، أو دار الرعاية مترقبًا النهاية. يصبح كومة وعاء مترهل يحمل روحًا قوية توَّاقة مسجونة بداخله.

جسد يتحرك ببطء.. ليس بسبب ثقل حمل وعثاء سفره عبر مسارات وتقلبات تضاريس الحياة. الأمر أكبر من ذلك بكثير. لكننا وكالعادة نتقبَّل إرث هذه المسيرة بكل تضاريسها.. حتى وصولنا سهول الموت العظيمة. مفتوحة لاستقبالنا كبقية أفواج أجيال مضت. لماذا جعل الإنسان نفسه ترسًا، والحياة آلة، وجعل لهما نهاية صلاحية؟ لماذا أسس لهذه الآلة نظام (تقاعد) مفروضًا بالقوانين؟ لماذا جعل خاتمة وظيفة هذا الترس ترقب وصول الراتب التقاعدي، الثابت كمًّا، مع آخر كل شهر؟هل هي سياط جشع وطمع نسميه الطموح والتطور؟ أنظمة تهيئ الإنسان،ثم تستثمره، ثم تتخلى عنه في برية الانتظار الموحشة، ثم تقول انطلق واستمتع ببقية حياتك، خدعة تزيد وطأة التأمل الضائع والتفكير المبه، بسببها يبدأ المتقاعد يعيش مرحلة صراعات تشعره ببعض قيم حياة السجلات الرسمية، مسار توديع الجسد هو الأجمل في الحياة للأحياء. موكب جنازة، معزين، دعاء ثابت الأركان، وصلاة خاصة. طقوس لتكريم مشاعر الأحياء وليس للجنازة في القبر. آخر عصرة بعد مماته. خرج من الحياة بشهادة وفاة تنزع الجسم بشكل رسمي ونظامي من الوجود. يتم تكريم الجسد بالدفن في بطن الأرض،عند أقوام يتم حرقه عند آخرين يترك فريسة للطيور الجارحة، في السياسة يتم رمي الجسد في البحر انتقامًا،يجعلونه طعامًا للكائنات البحرية.

تقول العرب في عزائها لنفسها: ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ تحمل هذه الطرق فلسفة عميقة، تتدرج من التكريم حتى أقصى درجات عقاب الإنسان لأخيه الإنسان حيًّا وميتًا.

ماذا عن الروح؟ أطرح السؤال كمتقاعد تفرّغ للتفكير في مسيرة حياته. وجدتُ الروح في صبا مستدام بعكس الجسد؛ لأنها كذلك لا يمكن دفنها في التراب مع الجسد. تذهب في طريق لا نعرفه. لكن سيأتي يوم تعرف فيه الناس كُنه الروح. في هذا السياق أعتقد أن الروح تجري مع الماء. لديّ إيمان وقناعة بأن هذه الروح استعارت من الماء لونه وطعمه ورائحته.

تعيش (السلحفاة) أكثر من (500) عام. بعض قناديل البحر لا تموت أبدًا. بينما الإنسان كجسد يتقاعد ويصبح خارج الخدمة كترس في مكينة الوظيفة مع بلوغه الستين عامًا. هل تكون السلحفاة ملهمة للعقول العلمية لجعل الجسد لا يشيخ ولا يبلى؟ هل سيظل وعاء حاملًا للروح الديناميكية؟ هل يكتشف العقل البشري سر الروح المستدامة؟ أعتقد بقدرة العقل على تحقيق ذلك بالطاقات التي استودعها الله في الإنسان.

أمر التقاعد وصراعاته يمكن أن يكون محفزًا وملهمًا علميًّا. التقاعد يشكل نكبة كبيرة للجسد وليس للروح. جعلونا نقتنع كذبًا بنشيد الاستمتاع بعد التقاعد،الجسد في قوته وعنفوان طاقته أشبه بجوهرة ساحرة ملهمة. وظّفوه في كليات الفنون الجميلة. حيث يركزون على خطوط تشكيل غلاف الجسد الخارجي ومنحنياته الساحرة. لا يشاهدون الأكثر عجبًا وسحرًا بداخله، لماذا؟

يحمل هذا الجسد أجهزة هي معجزة في عملها، وتكوينها، وترابطها، ودقة أدائها وتناغمها، ووظيفتها. كيف لها أن تتآكل بالتقادم؟ كيف لها أن تمرض وتضمحل قواها؟ كيف للروح أن تصبح شاهدة على عجز هذه الأجهزة وتقادمها ومرضها؟ كيف تتحمّل الروح هذه النكبات من حولها؟ لماذا تفقد البشرية هذه الأجهزة بعد مغادرة الروح من الجسد،أخيرًا جعلوها قطع غيار في سوق الربح والخسارة. يحثون المتقاعد على التبرع بأجهزته بعد الوفاة. هل يصبح الأمر إلزاميًّا في يوم من الأيام؟ هل ستختفي القبور؟ أين الجبل يا سارية؟