معتصم باكراع @BakraaMoutasem

في الماضي لم تكن هناك مقاعد محجوزة بأسمائنا، بل كنا نمشي في الحدائق الغنَّاء دون اجتماعات مسبقة أو انطباعات أولية ومسميات واهية، بل كانت الأرض تمتلئ بعذوبة ضحكاتنا لا نحاول أن نتقن توصيل أفكارنا حتى لا يُساء فهمها، بل كنا نسمّي كل شيء بما تستطيع حناجرنا حمله وألسنتنا النطق به.

بعد أن كبرنا أصبحت المواعيد هي مَن تحدد أولوية الوصول وأسبقية المغادرة، حسب بروتوكولات تجاربنا الإنسانية ومواقفنا الشخصية، لم نعُد نملك تلك الرفاهية لكي نتصرف وفق أهوائنا، بل إن سرعة الحياة اقتطعت التفاصيل البسيطة التي كنا نشعر بها، وفي كثير من الأحيان تبرد القهوة قبل أن ترشفها شفاهنا.

وسائل التواصل الاجتماعي اغتالت جودة المشاعر، تخيَّل أنك تتصفح جوالك على تطبيق الـ واتس آب مثلًا أو أي منصة تعرض المحتوى العشوائي غير المنظم، سوف تضحك وتغضب وتفرح وتعيش تلك المشاعر المختلطة خلف ستار الشاشة المضيئة دون أن تستطيع أن تتعمّق أو تعيش التجربة الفعلية.

سوف تسافر إلى المقهى والمطعم والمرسم تذهب إلى المتاحف أو إلى أعماق البحار أو ربما تعبر الفيافي وتجوب البراري لتصل إلى برودة الصقيع أو تجمّدات الطريق، وبين التواري خلف تبدلات المشاعر اللا إرادية تجد يومك انتهى على قارعة الطريق، تلتفت دون أن تجد الأنيس، فتتموضع خلف بقايا سيل المعلومات والمشاهد والصور والخواطر والمقالات والكتب بحسب المحتوى الذي كنت تستهلكه وفق سطوة الخوارزميات التي تشكَّلت بناء على الاهتمامات.

وصلني مقطع من أحد الأشخاص عن طفل سقط في مجرى أحد السيول وتم إنقاذه، يا ترى هذا المشهد إن أمعنت النظر فيه ماذا سوف تكتشف؟

أن الأطفال لا يدركون تلك المخاطر العالية التي نشعر بها، بل إنه في كثير من الأحيان تموت التجارب في مهدها بناءً على معلبات التصورات المسبقة، ليس هناك أجمل من العفوية والتلقائية بعيدًا عن الزيف، لن أقول إن نعيش ونتوسع بتلك الطفولة!

ولكن كم من موقف لم تجد نفسك فيه؟ وكم من كلمة لم تستطع أن تطلقها لتعبّر عن أصالة بواطن مشاعرك، وتستشعر تفاصيل اللحظة وتلك الزوايا التي ذبلت من انتظار الربيع فقط؛ لأن التأهب من المخاطر التي اختلقتها تصوراتنا هي ما أضاعت بوصلة الطريق، وكما يقول محمود درويش (ليس المكان مساحة فحسب، إنه حالة نفسية أيضًا، ولا الشجر شجر، إنه أضلاع الطفولة).

لن تستطيع أن تتجرد من الطفل الذي لم يكبر بين أروقة المسافات التي أخضعتها ومنطقتها إلى الحد الذي أفقدك عيش ملامح الرحلة خوفاً من مستقبل يتفرع من إستراتيجية التخطيط أو وضع الأهداف وبناء الرؤية وكتابة الرسالة.

كانت تلك المعلمة تنبّهنا حينما تذوب قطعة الحلوى على ملابسنا، دون أن نتحصّن بتلك المسؤولية التي أثقلت كواهلنا بين المثالية والتنظير، وبين العفوية والتلقائية، نزهو في معترك الحياة وتقلباتها إما أن نكبر ونرفع سقف المخاطر، وإما أن نتوازن ونعطي مساحة لذلك الطفل الذي لم يكبر، عوضًا عن فقدان رفاهية الوقت تأتي رفاهية الطفولة لتجمع تشكّلاتنا وتوازناتنا بين الحين والآخر قبل أن نقف في آخر محطات العمر دون أن ندرك جميع تلك التفاصيل التي غفلنا وتغافلنا عن جمع شتاتها.

وكما يقول الأديب الفرنسي فكتور هوجو (سر العبقرية هو أن تحمل روح الطفولة إلى الشيخوخة؛ ما يعني عدم فقدان الحماس أبدًا) نحتاج إلى رفاهية الطفولة بين الحين والآخر لنرتب أوراقنا في أحضان الطريق.