في صبيحة أحد أيام الشتاء من عام 1991م، رنَّ جرس الهاتف في أحد المكاتب المطلة على جورج سكوير بجامعة أدنبرة العاصمة الإدارية لأسكتلندا. وقد أجاب المتحدث روبرت هلنبراند - أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة أدنبرة - بقوله: لا، لا أستطيع ذلك، وانتهت المكالمة، مبديًا اعتذاره عن عدم الإشراف على أطروحة الدكتوراه التي كنتُ على وشك أن أبدأها في نفس الجامعة، وكنتُ أتحدث معه من شقة رقم 14 في عمارة مشهورة للشقق المفروشة، كانت الوحيدة وقتها آنذاك على شارع الأمير فيصل بن فهد (البيبسي) في الخبر.
وعندما أصبحت في أدنبرة بعد تلك المكالمة ببضعة أشهر، بدأت في مشروع الرسالة تحت إشراف أستاذ فاضل آخر. غير أن مشيئة الله كانت فوق كل شيء. فبعد مرور ما يقارب السنتين على بدء الدراسة، وفي غضون شهر واحد، توفي المشرف على الرسالة، وتوفي والدي أيضًا. وقبل العودة إلى أبها، وحضور مراسم العزاء، في صبيحة عيد الفطر المبارك من عام 1995 كنت قد اتصلت به، وطلبت منه إكمال الأطروحة تحت إشرافه وتمت الموافقة، ومنذ أول اجتماع به، وبدءًا بغلاف الأطروحة وكتابة اسم المدينة أدنبرة (وهو اسم صعب الهجاء حتى على البريطانيين أنفسهم) وجامعتها الأشهر، وعلى مدى عام كامل، وحتى آخر اسم مؤلف في قائمة المراجع، كان كل اجتماع درسًا في التحصيل الأكاديمي والفكر التاريخي والكتابة بشكل علمي. وبعلم أو بدونه، تسرَّبت تلك التقاليد، ووجدت طريقها إلى صفحات النشر العلمي، وقاعات التدريس، ومسودات طلبة الدراسات العليا.
يقول المتنبي لكل امرئ من دهره ما تعودا. الحديث هنا ليس عن سيف الدولة، لكنه عن روبرت هلنبراند، الفائز بجائزة الملك فيصل لهذا العام في العمارة الإسلامية. الأكاديميا ثقافة، وعرف يرقى لدرجة الاعتقاد، الأكاديميا عراقة، تقاليد، فكر وممارسة. الأكاديميا شغف وإخلاص للمعرفة والعلم والتعلم مجردة من أي شوائب. وهي ليست مصدر رزق. إنها أسلوب حياة.
لقد تجسَّدت الأكاديميا بكل ما انطوت عليه من تفاصيل في فكر الرجل وحياته الأسرية (حيث كانت زوجته قد فازت بنفس الجائزة عام 2005 عن الحروب الصليبية)، في مكتبه المتواضع والذي لا يعدو أن يكون غرفة في أحد البيوت الأسكتلندية التقليدية شأنه شأن الكثير من مرافق الجامعة والمكتبات الثلاث المجاورة لها قال لي ذات مرة: اجلس على هذا الكرسي، فقد سبقك بالجلوس عليه ما يزيد على (عشرين أو ثلاثين) طالب دكتوراة، الإحاطة بنتاج هلنبراند الأكاديمي بحاجة لكتاب مستقل بذاته، لكنني هنا سأتوقف عند ما يعتبر أنه أهم كتبه، العمارة الإسلامية: الشكل، الوظيفة والمعنى الصادر لأول مرة عام 1994. ربما كان هذا هو الكتاب الوحيد الذي يدرس العمارة الإسلامية خارج نطاق مدرسة التحقيب.
لقد تم تقسيم العمارة الإسلامية إلى فصول يتناول كل منها نوعًا واحدًا فقط من البناء بدءًا بالمسجد، فالمنارة، فالمدرسة، فالضريح، فاستراحات القوافل، فالقصر، عبر تاريخ وجغرافية العالم الإسلامي.
هذا طرح جديد ونادر، وبقدر ما احتوى من حقائق علمية صيغت بلغة راقية (صعبة لغير الناطقين بالإنجليزية، وهو ما أثناني عن ترجمته للعربية)، زوّد أيضًا بصور ورسومات توازي في شموليتها وقيمتها النص ذاته. وقد قالت عنه الصحافة البريطانية إنه أهم كتاب في موضوعه منذ إصدارات سلفه الآثاري البريطاني ك. أ. كريسويل في مطلع القرن المنصرم.
عندما قدمت ملف ترشيحي لنفس الجائزة هذا العام ترددت كثيرًا؛ لأنه لا يمكن للتلميذ أن يتفوق على أستاذه، ولا يمكن أن ينال الجائزة إلا مَن يستحقها غير أن تمثيل الجامعة في محفل مرموق كهذا هو شرف يطوقني، أشكر الجامعة عليه. وقد كنت أجزم يقينًا بأن الرجل هو الأجدر بها على مستوى العالم. وهكذا كان.
إن فوز قامة أكاديمية بهذه الجائزة هو فوز لتلامذته حول العالم. وهذا وعد من التاريخ بحمل الإرث الذي مثله وبمواصلة المسيرة في التعريف بالعمارة الإسلامية دراسة ونقدًا وممارسة حية على أرض الواقع.
• أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل