@MohammedAlHerz3محمد الحرز

ثمة ما يجب التوقف عنده في مشهدنا الثقافي بخصوص جيل التسعينيات وتجاربهم الإبداعية؛ لأن هذا التوقف سيوضح لنا حجم التحوُّلات والتغيُّرات التي طالت لاحقًا جوانب عدة في بنية المجتمع والثقافة ـ مثلما هو حاصل الآن ـ ومن ضمنها، على سبيل المثال، تفكّك العلاقة القائمة بين المبدع (سواء كان شاعرًا أو روائيًّا أو كاتبًا)، وبين مصادر إبداعه، وما تبع ذلك من تحوُّلات طالت النظرة إلى الإبداع نفسه.

وما أعنيه تحديدًا بـ(تفكك العلاقة القائمة بين المبدع ومصادره) هو كالتالي:

أولًا: لقد عانى هذا الجيل وما قبله من صعوبة توفير مصادره الإبداعية، ناهيك عن قلة خياراته في الحصول على هذه المصادر، فمثلًا عندما نبحث عن كتاب أو مجموعة كتب لا تتوافر إلا في الخارج نضطر للسفر لجلبها، مستهلكين جهدًا ووقتًا ومالًا، وفي نهاية البحث والحصول على الكتب، أنت لا تعلم هل ستمررها لك الجمارك أم ستمنع؟ وهناك العديد من القصص ضمن هذا الإطار لا تخلو منها سيرة مبدع أو مثقف في تلك الفترة.

ثانيًا: تبعًا لهذه الصعوبة في توفير المصادر، فقد تحددت من خلالها سمة الكتابة الإبداعية عند الغالبية العظمى من جيل التسعينيات، وأهمها على الإطلاق وحدة المرجعيات بوصفها الشريان المغذّي لجُلّ أعمالهم، والمغذي أيضًا لتصوراتهم حول الكتابة والحياة والعالم.

وما أعنيه بوحدة المرجعيات هنا ليس سوى الأسماء التي استوطنت أعمالهم في الأفق القرائي لهذا الجيل، سواء كانت روائية أو شعرية أو فنية، هذا من جانب، أما من جانب آخر، فهناك الحوار والتواصل عن قرب مع البعض من هذه الأسماء من قبيل: محمد الماغوط، أنسي الحاج، أدونيس، وديع سعادة، سعدي يوسف، عباس بيضون، يرمون بولص، بسام حجار.. إلخ.

ناهيك بالطبع عن الأعمال المترجمة لكبار الشعراء الغربيين التي صدرت عن طريق هؤلاء أو حتى غيرهم الذين كانوا قريبين من أفقهم الإبداعي.

قد يبدو للبعض أن ما أقوله يأتي ضمن سياق التأثير بين تجارب إبداعية وأخرى، وهذه إحدى البديهيات التي لا تحتاج إلى توضيح أو شرح، وهذا صحيح نوعًا ما.

لكن ما كنتُ أقصده في واقع الأمر يتمثل في نقطتين اثنتين:

الأولى تتصل بكون تصوّرات هؤلاء من الجيل التسعيني عن الكتابة الشعرية والسرمدية المتأثرة بتلك الأسماء لم تقف عند حدود التأثير اللغوي والأسلوبي والفني فقط، إنما كان لمفهوم الحرية الشرط اللازم للكتابة في تحوُّلاتها الشكلية والمضمونية.

لذا رأينا على سبيل المثال كيف انتقل يوسف المحيميد من شكل إلى آخر، من القصة إلى الشعر، ثم إلى الرواية. وهناك أيضًا أسماء أخرى خاضوا التجربة ذاتها في ارتياد مغامرة الشكل الكتابي الذي لا يقيّد حريتهم في الكتابة، بعضهم اصطدم بالقيود المفروضة على الكتابة، فنفض يديه من الكتابة واعتزل، والبعض الآخر خضع لهذه القيود، وسبح مع السابحين وخضع لمتطلباتهم.

وبالتالي هذا يوصلنا إلى النقطة الأخرى، حيث مثل هذه الحرية لم يكن يُنظر لها من خارج النص، ولم يكن يُسمح لها أيضًا بذلك، فقد كان النص وحده هو الرهان على حرية الكتابة فقط.

وسوف نرى لاحقًا في سمات التجارب الإبداعية ما بعد الألفية الثانية كيف أصبحت هذه الحرية تفتح بابًا كبيرًا على مسألة في غاية الأهمية، وهي مسألة التجريب في الكتابة التي تأثرت بها تلك التجارب!