سألت قريبي أبا مهدي - غفر الله له ولأموات المسلمين- في إحدى المرات وكان يبدو لي حينها أنه في مزاج جيد، ولديه الرغبة والقدرة على الأخذ والرد كما يقال. قلت له أخبرني بالله عليك، لماذا نصنف نحن العرب الجروح، بأول وثان، وثالث، وربما إلى ما لا نهاية من الجراح في هذه الحياة؟ ضحك الرجل بطريقة أكدت لي أنه رحمه الله كان في مزاج يساعده على الحديث، والاسترسال. قال لي بطريقته المعتادة:- شف يا ولدي الجروح أنواع، وربما هذا ما يجعلها كثيرة في حياة الناس أو البعض منهم.
وواصل حديثه بعد أن اعتدل في جلسته، وكان يتكئ على يده اليمنى ويستخدمها في نفس الوقت في دفع جرعات من القهوة العربية المعمرة بالهيل وباقي بهارات الصحراء العطرية من فنجان استقر لبعض الوقت بين أصابعه.
- الجرح المؤلم والذي قد يحفر له مكانا في النفس، والروح، هو تعمد الإساءة من الغير، ويكون الجرح أكثر حرقة وأطول تعميرا مع الإنسان عندما يأتي من قريب، أو من إنسان لم نك نتوقع يوما إلا أن يهدينا الورود، فيخيب فيه الأمل ونجده يكيل لنا الجراح، الجراح فقط.
بدا أبو مهدي - رحمه الله - عند هذه المرحلة من الحديث أكثر جدية، وكأنه بدأ يتفاعل مع الحروف، والكلمات، والجمل التي تخرج من فمه. اعتدل هذه المرة تماما في جلسته، ووضع فنجان قهوته على الأرض، وراح يتحدث وكأنما يقف أمام آلة تصوير:
- هناك جروح يا بني عابرة، وأخرى مقيمة مع المخلوق ما دام على سطح هذه الأرض، أتذكر في زمن مضى أن أحد الرفاق الذين قضيت معهم أجمل أيام حياتي، وكنا لا نفترق إلا عندما يذهب كل منا لشأن أسري أو لعمل خاص، أو عندما كنا نذهب للنوم. قدم لي كثيرا من الود، ومعاني الأخوة والوفاء الكثير، وبادلته بالمثل، فلم يك صديقا بقدر ما كان أخا وأخا مقربا، لكن الأيام حملته أعباء عملية ووظيفية، فلمست منه تغيرا يمكن وصفه بتغير البيئة التي كانت تجمعنا، وحاولت التواصل معه مرارا وكنت أجد في كل مرة نسخة جديدة لصديقي القديم نسخة لا تشبهه ولا تشبه علاقتنا والود الذي بيننا. المفيد أن هذا الموقف كان أحد جروح الحياة، لكن لا أعرف ربما كان الأول بقسوته، وأتمنى أن يكون الأخير.
قال عبارته الأخيرة وقد تملكه كثير من الحزن، وبدأت أقرأ في نبرات صوته ألما غير مسبوق، فطلبت منه أن يتناول فنجانا آخر، وأن يؤجل الحديث في الجروح، القديم منها والجديد إلى وقت آخر.