mailto:hanih@iau.edu.sa
كان من المفترض أن يكون هذا المقال عن العمارة العثمانية في سلسلة مقالاتنا عن العمارة الإسلامية. غير أن ما حدث في أرض العمارة العثمانية ذاتها جعلنا نؤجل الحديث عنها إلى وقت لاحق. فقد فجع العالم وما زال بالزلزال (بالأحرى عدة زلازل) الذي ضرب جنوب تركيا والشمال السوري في واحد من أشد زلازل العالم في العصر الحديث. وما زالت مشاهد المأساة التي خلفها الزلزال باختلاف صورها وبعد مرور ما يقارب أسبوعين تتصدر مشاهد شاشات التلفزة حول العالم. ولعل هول مشاهد الدمار التي لحقت بالمباني وتساقطها الواحد تلو الآخر هي التي جعلت من هذا الحدث مأساويا في عدد وفياته وكلفة إصلاحه وحجم الدمار الذي تسبب به.
تساءل الناس كثيرا عن سبب سقوط المباني كما لو كانت حجارة من ورق وبدأ الناس يقارنون بين البناء بمنطقة الزلزال ومناطق أخرى في العالم معرضة بصورة أكثر للزلازل كما هو الحال في اليابان وفي جنوب شرق آسيا عموما على سبيل المثال.
في مقال سابق في هذه الزاوية تم لنا تصنيف العمارة على أنها نشاط تابع للثقافة. وهنا بيت القصيد. العمارة شكلا ووظيفة وأسلوب بناء ومواصفات ومعايير سلامة وجوده وكل تفاصيل البناء هو نشاط خاضع لثقافة أصحاب المكان، هكذا هو البناء، إنه منتج ثقافي في نهاية المطاف.
ففي اليابان ولأن الزلازل حدث شبه يومي فقد تعامل اليابانيون مع أرضهم بأسلوب خاص بهم. عرف اليابانيون منذ القدم بالدقة والتنظيم في كل شيء ولعل مقولة «الكمبيوتر الياباني» التي يصف بها الإعلام الغربي اليابانيين مثال على ذلك. ولأن التنظيم والدقة وحسن التدبر قيمة ثقافية لديهم فقد وجد ذلك طريقه في طريقة تعاملهم مع الزلازل.
والحديث عن مقاومة البناء للزلازل حديث هندسي بحت وإسهاب في غير محله غير أن اليابانيين وكثيرا من شعوب جنوب آسيا قد تعاملوا مع الزلازل بطرق عملية ناجعة وفعالة أصبحت بمرور الزمن نتاجا ثقافيا لهم.
تقليديا كانت أعواد وسيقان الخيزران والأخشاب عموما مقاومة للزلازل وفي العصر الحديث استحدث اليابانيون كما هو حال شعوب جنوب آسيا ماصات الهزات الأرضية. هذه الماصات عبارة عن فواصل هندسية من اللدائن توضع في مفاصل الأعمدة والجسور لامتصاص الصدمات تماما كما هو الحال في الهيكل الحديدي للسيارات. وفي حالات أخرى يتم تركيب فواصل معدنية هيدروليكية تسمح للبناء بدرجة من المرونة أثناء الهزات الأرضية أو الرياح العاتية. وفي ناطحات السحاب يتم تركيب أعمدة تثبيت تشبه بندول الساعة لتقاوم اهتزاز الأبراج العالية عند تصدعها بفعل الزلازل أو الرياح. كما أن شكل البناء طولا وعرضا وارتفاعا وتوازن عناصره أو تماثلها لها أدوار مهمة في مدى مقاومة البناء للزلازل.
قد لا تكون تركيا معرضة للزلازل بنفس تكرار وشدة الزلازل في اليابان لكنها تبقى على أية حال منطقة نشطة زلزاليا وهذا ما كان يستوجب التعامل معه على جميع المستويات.
البناء هو نتاج لمهنة شأنه شأن جميع المهن والحرف والصنائع في كافة أنحاء العالم. عمليا ليس هناك مهنة تزاول بدرجة كاملة من الإتقان. وهنا يحدث الخلل. ونظرا لأن قطاع البناء من أكثر القطاعات التجارية في كل أنحاء العالم فإنه يصبح عرضة لممارسات خاطئة. تحدثت وسائل الإعلام عن فساد في تنفيذ المباني المهدمة. ولعل في ذلك شيئا من الواقع. وإذا أخذت اليابان مرة أخرى كمثال حيث يندر أو يكاد وجود الخلل أو الفساد في الممارسة يتأكد لنا الجانب الثقافي في صناعة البناء. ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة صمود عدد كبير من الأبنية في منطقة الزلزال.
ما حدث في تركيا وشمال سوريا مأساة بكل ما للكلمة من معنى. ولعلها مناسبة بعد جلاء غبار الركام واجتراح الأحزان أن يتم تلافي ما تراكم من أخطاء في عملية إعادة الإعمار وهي مهمة بحاجة إلى إعادة النظر في مجمل عملية البناء والإنشاءات في المناطق المنكوبة برمتها.
* أستاذ العمارة والفن - جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل