كثيرٌ من الناس يتمنى أن يكون قائدًا أو مسؤولًا يأتمر الناس بأمره وينتهون بنهيه، ويحرصون على مشورته، ويقدّمونه في المجالس والمحافل، وغير ذلك من المميزات التي لا تتأتّى إلا للقادة والمسؤولين.
ولكنهم يغفلون عن أن تلك المناصب القيادية، بالرغم من جاذبيتها وبريقها، إلا أنها تكليف ثقيل ومسؤولية جسيمة، وليست تشريفًا أو وجاهة يتباهون بها، وأن مسؤوليات الزعامة شاقة وضريبتها عالية.
أما الأمر الآخر، الذي يغفل عنه أولئك الطامحون لتولي المناصب القيادية، فهو أن معدن القادة نفيس ونادر. فالقيادة ليست مجرد لقب أو مسمى وظيفي، بل هي مجموعة من السمات والقدرات يهبها الله لمَن يشاء من عباده، وتُصقل بالتدريب والتجارب. وكما قال رسولنا الكريم «صلى الله عليه وسلم»: «إنما الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة»، وندرة القادة كندرة الرواحل بلا شك.
وسأشير في مقالي هذا، والذي يليه -بإذن الله-، إلى أربعٍ من الصفات اللازمة للقادة، ليكونوا مؤثرين في أتباعهم وموظفيهم وفاعلين في محيطهم والمجتمع من حولهم، مستشهدًا بـ «أخو نورة» الملك عبدالعزيز «طيَّب الله ثراه»، كمثال للقائد الفذ والمؤثر.
1- استشراف المستقبل ورؤية عواقب الأمور:
إن القائد لا بد أن يتحلى بالحكمة والبصيرة ورؤية الأمور بشكل مختلف، وأن يدرك نتائج القرارات وعواقب الأمور. وهذه كلها تأتي نتاج العلم الواسع والمعرفة العريضة والتجارب الكثيرة.
ذكر الأمير بندر بن سلطان، في لقاء مع قناة العربية، أن الملك عبدالعزيز اقترح على جامعة الدول العربية، حين بدأ الحديث عن مخيمات للاجئين الفلسطينيين بعد حرب 1948م، ألا تقبل ببناء المخيمات في البلدان المجاورة كالأردن وسوريا وغيرهما، بل تقام تلك المخيمات داخل الأراضي الفلسطينية. وأن تقوم الدول العربية بتزويدهم بالمال والسلاح والرجال، فتكون الهجرة إلى فلسطين، بدلًا من أن تكون لخارجها، لتضييق الخناق على العدو المحتل. ولكن للأسف تم رفض الاقتراحَين، وحدث ما كان يحذر منه -طيَّب الله ثراه- وأثبت التاريخ صواب رأيه ونفاذ بصيرته، فما زالت المخيمات موجودة حتى اليوم، واللاجئون منتشرون في أقطار العالم.
2- إتقان فن الاتصال مع الجمهور المستهدف:
روى معالي الشيخ محمد سرور الصّبان «رحمه الله»، وقد كان وزيرًا للمالية في عهد الملك عبدالعزيز، أن الملك أمره أن يكتب ما يُمليه عليه. فصار يكتب ما يُمليه بلغة مصحَّحة، ولما أكمل الإملاء، قال له: اقرأ ما كتبت. فلما قرأه الصبان، ضحك الملك عبدالعزيز، وقال: «إنني أعرف أنك متعلّم، تُحسن الكتابة بالعربية الصحيحة، ولكنني أخاطب بهذه الكتابة أبناء البادية الذين يفهمونها».
يقول الصبان: فعدَّلت ما كتبت، وأعجبه وأمر بصدوره.
وهنا تبرز حِكمة الملك عبدالعزيز وبراعته في فن الاتصال مع الجمهور بلغة بسيطة مفهومة، تضمن إيصال الرسالة للشريحة المستهدفة، بعيدًا عن الكلمات الرنانة والعبارات المنمَّقة التي قد تفرّغ الخطابَ من مضامينه، أو تصعب على المتلقي فهم الرسالة، واستيعاب فحواها.
وللحديث بقية في الأسبوع القادم «بإذن الله».