د. محمد حامد الغامدي

n لم يخطر ببالي أن أكتب عن التقاعد، رغم اطلاعي على كتابات متفرقة، تناولته أثناء سنين عملي الوظيفي. كانت تظهر كالزوبعة سرعان ما تخمد، كانت تتحدث عن جوانب قصور، بنتائج لها أبعاد سلبية. ثم وجدت نفسي أعيش حالة هذا التقاعد منذ عام 2016 الموافق (1/7) 1437هـ.

n مهنتي كأكاديمي تعتمد على القراءة والكتابة. كنتيجة لم أشعر بالفراغ الكامل. فكان أن قدمت بعد تقاعدي (15) كتابا. وما زلت أمني النفس بالكثير. لكن ظل في نفسي محور المعنى اللغوي لهذا المتقاعد. بقيت أحمله على مضض حتى انفجر بركانه.

n أذكر موقفا ظل معلقا في ذهني. تعاظم أمره بعد التقاعد. بدأت في تشريح أبعاده كحالة تاريخية. شعرت بأنه يحمل ظلما خفيا، لا يحس به إلا المتقاعد صاحب الشأن. لقاء في أحد شوارع وسط مدينة الدمام التي أحب. ليلا في شهر رمضان المبارك. استوقفني أحد كبار السن بجسم نحيل. بوجه يحمل تضاريس نحت السنين. طلب زكاتي أو صدقة من مال الله.

n أخذ الحديث مجراه. من ملامحي ولهجتي قال: أنت غامدي؟ حدد منطقة ولادته. قدم نفسه بكلمات مؤثرة، ومؤلمة. شرح كيف كان في صباه وشبابه. سرد أعمالا قام بها في حياته. تفاجأت أنه كان يرعى غنم أحد الجماعة في قريتي عندما كان في سن العاشرة. خلاصة القول: قاده الزمن ليعمل في العسكرية. راتبه التقاعدي لا يزيد على 150 ريالا. اللقاء كان في أول تسعينيات القرن الماضي الميلادي. أحيل على التقاعد في ستينيات القرن الماضي الميلادي. أكد أن وضع معيشته غير مريح. فجأة انفرط يدعو بعمق على من كان السبب في سوء وضعه. حدد اسما لم أتحمل ذكره بالسوء. قلت: هذا هو النظام. كان يقول خدمت والنتيجة بعد التقاعد أصبحت أشحذ ما يعينني على الحياة.

n رغم تغير الظروف نحو الأحسن والأفضل للجميع -ولله الحمد- كانت حالة حملتها هما، وتساؤلا طوال هذه السنين. انفجر بركانها بعد تقاعدي. عشت حالات متقاعدين عصفت بهم الظروف. آلمني وضع أحد علماء الجامعة المتقاعدين، كان عميدا، قال: ليتني كنت مدرسا في سلك التعليم العام. ذكر أن راتبه التقاعدي لو كان منتسبا لسلك التعليم العام سيكون أفضل من راتب الجامعة بشهادة الدكتوراة. سألته عن صحته؟ قال: أعيش في زاوية من الصالة. والزاوية الأخرى تحتلها زوجتي المريضة. أعرف أنه حاول إثبات نفسه كعالم بعد تقاعده، فقاده طموحه وأمله في خدمة أجيال الوطن إلى السجن مديونا ومقهورا.

n بؤس توج زملاء تقاعدوا قبلي. حرك بداخلي وهج الكتابة عن التقاعد وصراعاته وعززه كرسالة. وجدت زملاء يهنئون شخصي بكوني أكتب بعد التقاعد. لكوني أقضي وقتي في شيء يرونه مفيدا لشخصي قبل غيري. كانوا يتحدثون عن قتل الوقت. فهل يتم قتل الوقت؟

n بدأت بمقال تبعه آخر إلى أن وصلت إلى المقال التاسع. كل ذلك بدون تخطيط. توقفت. قلت يكفي. كان يمكن أن استمر. توقفت مقنعا نفسي بأن اللبيب بالإشارة يفهم. فهل سيظل هذا اللبيب غائبا؟ هذا السؤال بأبعاد ومحاذير، وفلسفة توحي وتقول. طرحته بعفوية متقاعد يعيش بمعنويات عالية الهمة لطرح أي سؤال.

n لم أتطرق إلى رواتب المتقاعدين. ثابت في كل الظروف. جعلوا قانونه أشبه بالموت المسلط. هل من حقنا أن نتساءل عن أموال رواتبنا التراكمية المستقطعة شهريا؟ كيف يتم تنميتها؟ أقف عند هذا الحد حتى لا أدخل دوائر حيص بيص العربية فأندم.

n مرارة الحال تؤجج الصراع والأحكام. لا تكن رخمة بعد تقاعدك. عظم طموحاتك حتى وأنت كهل. إذا انتهت انتهيت. كن نشمي.

n (ابن مصلح أحد أشهر شعراء العرضة في منطقة الباحة).

@DrAlghamdiMH