أ. د. هاني القحطاني

hanih@iau.edu.sa

هاتان الكلمتان تلخصان حال العمارة والفن والثقافة. الكلمتان إنجليزيتان، وبعيدا عن الاشتقاقات والتفاصيل اللغوية لهما، فإن البورتريه هي رسمة عادة ما تكون لوجه رجل أو امرأة، يزيد ارتفاعها على طول قاعدتها. أما اللاندسكيب فهي عادة ما ترسم منظرا طبيعيا في لوحة يغلب طول قاعدتها على ارتفاعها. الموناليزا والعشاء الأخير هما أهم أعمال ليوناردو دافينشي. الأولى بورتريه والثانية لاندسكيب. الفرق بينهما أن الأولى ترسم ملامح وجه، ولذلك أتت عمودية، أما الأخرى فتمثل مشهدا عاما لسيدنا عيسى وحوارييه من حوله على مائدة الطعام. الأولى تهتم فقط بصاحب الوجه فقط وتركز على أدق تفاصيله. أما الأخرى فهي ترسم المشهد كاملا وتستوعب عددا كبيرا من الشخوص وتهتم بالمشهد والخلفية المصاحبة لموضوع اللوحة. الأولى تؤكد على الفرد باعتباره موضوع اللوحة، أما الأخرى فتؤكد على السياق بشموليته. ويمكن من خلال هذا المدخل البسيط شرح الكثير من فن الرسم في الغرب ومدارسه وما أكثرها.

بإمكان هذا الطرح على بساطته أن يفسر العمارة الغربية والإسلامية في سياقاتهما بصورة مبسطة وعميقة في آن واحد. العمارة في الغرب بدءا من الرومان ومن تلاهم هي عمارة عمودية. انظر إلى حمامات وملاعب الرومان، وانظر إلى الكنائس في كامل أنحاء أوروبا، تجدها تطاول عنان السماء فراغا من الداخل، وشكلا من الخارج منذ فجر المسيحية وإلى اليوم. واستمع إلى الترانيم والطقوس والشعائر المصاحبة لها. إنها تجسد مكانة نبي الله عيسى ضمن تصور المسيحيين له في عقيدتهم. إنه هو موضوع العمارة وشعائرها، تماما كما هي الفنون المصاحبة لها. لقد كان السيد المسيح هو موضوع العمارة وفنونها في الغرب في معظم تاريخه. هذه عمارة عمودية صريحة. ونظرا لصعوبة الارتقاء بالبناء فقد حفلت العمارة الغربية بعدد وافر من الأساليب والابتكارات الإنشائية التي ساعدت في الوصول بتلك الكنائس إلى أقصى ارتفاع ممكن.

في المقابل، انظر إلى المسجد في العمارة الإسلامية. إنه ممتد بامتداد الأفق. إنه لا يكاد يبرح الأرض إلا بمقدار ما يسمح للناس بالوقوف تحت سقيفته. والسقيفة التي هي أصلا أساس المسجد، وكما يستدل من اسمها، هي مجرد سقف بسيط، تم رفعه فوق عدد من أعمدة جذوع النخل أو مما تجود به مخرجات الصحراء لاتقاء الحر. ليس هناك ما يبرر العمودية في عمارة المسجد. وما اختلاف عمارة المساجد إلا نتيجة لاختلاف أحجام سقائفها، وصحونها، وأعداد مرتاديها. هكذا كان حال المسجد منذ بدايته وحتى اليوم. وتبقى العمارة العثمانية استثناء صريحا لذلك كونها متحدرة من العمارة البيزنطية. وتبقى الاختلافات بين المساجد في كافة أنحاء العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه هي في حجم ارتفاع السقيفة تبعا لمعطيات التاريخ والجغرافيا. ويمكن القول وبكثير من الموضوعية بأنه حتى مع وجود القباب فقد بقي المسجد أفقيا في عمارته، لقد بقيت أبعاده الأفقية أضعاف ارتفاعه.

ليس أكثر وضوحا لهذه الصورة من المساجد في شبه القارة الهندية. المسجد هناك هو أقرب إلى أن يكون صورة أكثر منه منظورا. قاعة الصلاة في المسجد مدججة بالأعمدة المنحوتة من الحجر تحمل سقفا أفقيا، وإن كانت القباب عنصرا رئيسيا فيها لكنها لا تغير من طبيعتها الأفقية.

هذا في العمارة، والحال نفسه ينطبق على فن التصوير في المنمنمات الإسلامية. البورتريه هي لوحة منظور. إنها لوحة يبدو فيها عمق المنظر واضحا، في حين أن لوحة اللاندسكيب يبدو فيها المنظر وكأنه ترادف لطبقات في مستويات بعضها خلف بعض. في المنمنمة لا مكان للعمق. هذا هو حال المنمنمات الإسلامية المتحدرة من مثيلاتها الصينية. هكذا ينسحب المفهوم ليفسر طبيعة الرسم (التصوير) في الفن الإسلامي، تماما كما هو حال المجتمعات الغربية التي هي مجتمعات أفراد ونجوم وشخصيات، كما هي لوحة البورتريه، عكس الصفة الجمعية التي تسم المجتمعات الشرقية.

* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل