ونحن في مستهل رمضان يزداد ارتياد الناس للمساجد زرافات ووحدانا، وهو ما سيكون لنا معه وقفة مفصلة في هذه الزاوية طوال أيام الشهر الكريم.
إن أي منتج كان مرتبطا ارتباطا وثيقا ومتأثرا سلفا بطريقة صناعته وأسلوب إنتاجه، ينطبق ذلك على أي منتج صنعته يد الإنسان والعمارة ليست استثناء من ذلك. الحديث هنا فقط عن مادة البناء. فنظرا لاختلاف مواد البناء في العمارة من مكان لمكان، ومن بناء لبناء، تغيرت وتعددت أشكال البناء عبر التاريخ، تماما كما هو الحال مع منتج ثقافي مهم آخر: النسيج. انظر إلى اختلاف أشكاله عبر العالم تجدها نتيجة مباشرة لخاماته وطرائق نسجه. هذا كان حال العمارة في كافة أنحاء العالم في كل زمان ومكان. وتأتي عمارة المساجد في مقدمتها.
تاريخيا لم تواجه عمارة المساجد مشاكل ما يمكن تسميته بـ «فقدان الهوية» كما تواجهها اليوم، لسبب بسيط، وهو أن المسجد حيثما حل يؤسس لعمارته وفق معطيات واقعه الجديد، فتنشأ هوية بل هويات جديدة متجددة للمسجد. هنا كانت المساجد (سواء أكان السياق حضاريا أم في كنف دولة أم مجرد ثقافة ما قبل الدولة أو بعدها) تبنى بمواد البناء المتوفرة، ضمن تقاليد إما جديدة في البناء، أو متأصلة، لينتج بناء هو في محصلته النهائية منتج طبيعي نابت من مكانه (تماما كما الخامات في العمل الفني).
من بين كافة المباني الدينية في شتى بقاع الأرض تبقى المساجد أكثرها تنوعا وإدهاشا من سواحل الأطلسي وصولا إلى أقصى جنوب الصين وشماله وأرخبيل جزره. إن تعدد أشكال المساجد في هذا الفضاء القاري الفسيح ليبعث على الدهشة والسرور والإعجاب بحضارات ودول وثقافات تلك المساجد، كما لو كان كل منها تجسيدا للآية الكريمة: «والله أنبتكم من الأرض نباتا»، حيث تبدو هذه الأبنية، هذه العمائر، هذه المساجد وكأنها غرس في المكان.
إن إلقاء نظرة سريعة فاحصة على مساقط المساجد التاريخية، كفيل لوحده بتشخيص الداء والدواء. انظر إلى مساجد الأمس في أي مكان ماذا تجد؟. تجد أولا تعريفا واضحا للكتلة في جدران (أغلفة) قاعات الصلاة وفي الدعامات الحاملة لقبابها، وفي الأعمدة الحاملة لأسقفها، وفي بوائك صحونها، وفي جدران القبلة، ومحاريب المساجد، وبواباتها وكل عناصر المسجد، ناهيك عن الجماليات البصرية وتنوعها.
ولأن الكتلة تعرف الفراغ فقد تعددت فراغات المسجد. هناك أولا تدرج في الفراغ منذ أن يطأ المرء عتبة المسجد من بابه إلى محرابه، وهناك تعريف (تجزئة) للفراغ تحت سقف المسجد. فهناك صدر المسجد، وهناك وسطه، وهناك أروقته الجانبية، وخلف كل عنصر معماري (كل دعامة، أو عمود، أو بائكة، وتحت كل قبة... إلخ) هناك فراغ يشعر معه المصلي بالألفة والحميمية. هذا الشعور بتقسيم الفراغ وإنسانيته أمر حاسم في الانتماء للمكان والشعور بالراحة وأداء الشعائر في أجواء روحانية. هذا التعريف للفراغ هو ما جعل من قاعات الصلاة في مساجد الأمس فراغات مريحة لأداء العبادة.
ما يحدث اليوم هو اجتثاث كامل بكل ما تعني الكلمة من معنى (عن غير قصد طبعا) لكل العناصر الواردة أعلاه التي كونت عمارة المسجد، وتمت الاستعاضة عنها بجدار (غلاف) رقيق من الخرسانة. هذا هو المسجد اليوم. إنه ليس بأكثر من صندوق حاو لفراغ واحد فقط، شأنه في ذلك شأن المخازن أو المستودعات أو القاعات الرياضية أو أسواق الجملة، اختفت معها الحميمية والشعور بالانتماء للفراغ في مساجد الأمس. المسجد كما هو معروف بالضرورة ليس ككل أنواع البناء الأخرى.
وبطبيعة الحال فإن المشكلة ليست في تغير مواد البناء، ولكنها متعددة الجوانب. ليست المساجد وحدها التي تأثرت بتغير مواد البناء وليست العمارة الإسلامية ومساجدها من فقد هويته في طوفان العمارة الحديثة وما رافقها، فالعالم كل العالم واجه وما زال نفس المشكلة، والمطلوب هو الاستجابة لذاك المتغير من جهة وبين إرث مساجد الأمس.
أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل