هل تأملتَ الشمس وهي تتعاقب علينا بين شروق وغروب؟ وهل رأيت القمر كيف يولد هلالًا، ثم يصير بدرًا، ثم مُحاقًا، ثم يعاود الكَرَّة مرة أخرى؟ والبحر يُرَاوحُ بين مدٍّ وجزر، واليوم يتقاسمه ليلٌ ونهار، والسنة تتجاذبها فصولٌ أربعة. هذه الظواهر كلها تؤكد أنَّ تَغيُّر الحَالِ سُنَّة كونيّة جارية، وأنَّ دوامَ الحالِ من المُحَال.
وهي قاعدة مطّردة في البشر أيضًا، فهُمْ بين إقبالٍ وإدبار، وهمّةٍ وفتور، وصعودٍ ونزول، وتقدّمٍ وتراجع.
وقد قرّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الحقيقة، بقوله: «لكلِّ عَملٍ شِرّة، ولكلِّ شِرّةٍ فترة»، والشرّة بمعنى الحماس والنشاط والرغبة، والفترة بمعنى الضعف والخمول، فلا تتفاجأ لو وجدتَ من نفسك جنوحاً إلى الراحة والسكون والدّعة، بعد أيامٍ أو حتى شهور من الحماس والاندفاع.
أمَا لفتَ نظرك حال بني إسرائيل حين أخذهم الحماس والاندفاع للقتال مع مَلِكِهم طالوت «وما لنا ألّا نقاتل في سبيل الله وقد أُخْرِجنا من ديارنا وأبنائنا»، فلما تجاوزوا النهر، تقاعسوا واعتراهم خَوَرٌ مفاجئ فـ «قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده»؟
أما اشتكى بعضُ الصحابةِ النجباء من تلك الظاهرة، وقالوا: «يا رسول الله.. إنّا نكونُ معك فنرى الجَنَّة والنَّارَ رأي العين، فإذا رَجعنا وعَافَسْنا الأهل والولد نسينا كثيرًا»؟!
ما أردت تقريره هنا هو استمرار حركة الفرد وتموّجها في خطٍ بياني بين قيعانٍ وقمم، وتبدّل حاله بين سطوعٍ وأفُول.
والشخص الواعي الذي يدرك هذه الطبيعة البشرية، يأخذ نفسه بمعالي الأمور حين إقبالها. أما في حال إدبارها فيتقبّل ذلك الشعور دون إنكارٍ أو مُكابرة، ويحذر من النزول عن الحدّ الأدنى مما هو واجب عليه خلال تلك الفترة، مدركًا أنها مسألة وقت حتى تشرق نفسه من جديد وتُقبِل على العمل والعطاء. المهم أن يكون مجمل حاله ومُنحناه في صعود دائم.
أمرٌ آخر، أودُّ الإشارة إليه، فكما أن التغيّر سنَّة كونية، فلِمَ لا نتناغمُ معها، وننطلق في رحلة تغييرٍ شخصية على كل الأصعدة، محاولين دائمًا أن نصبح أفضل مما كنّا عليه، يحدونا قول عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-: «إنَّ لي نَفْسًا توَّاقَة، ما وَصَلَتْ إلى شيءٍ إلا تَاقَتْ إلى ما هو فَوقَه».
ولا أُخْفِيك سرًّا أنَّ رحلة التغيير مُتعِبة وطويلة؛ بلا خط نهاية. ولكنَّ عاقبتها حسنة، وثمارها يانعة. وكما قال الإمام ابن الجوزي: «مَن لمَحَ فَجرَ الأجْرِ، هَانَ عليه ظلامُ التكليف»، فكلما شَعرتَ بالتقاعسِ وأنهككَ طولُ الطريق، تَذكّرْ أنَّ ثمرة الإنجازِ وحَلاوة النتائج ستُنْسيكَ مرارةَ الطريقِ ووعورته.
فاسْتَنفِرْ طاقتك -يا رعاك الله- واشْحَذ هِمَّتك، وردِّد قولَ المتنبي:
على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ
وتأتي على قدرِ الكِرامِ المكارمُ
وتعْظُمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها
وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
وانهضْ من كَبْوَتِك في كل مرة، وجَدِّد نشاطك بعد كلِّ سُكونٍ طارئ، واعلم أنَّ الماءَ يأسَن إذا ركد.
@MetebQ