ليس كل يوم يقوم الإنسان فيه بالإضافة للمعارف أثناء حياته. وليس كل يوم يكتشف شيئًا فيضيف إلى معرفتنا عن تاريخنا وعن حال أجدادنا. هذا حال المُدرّسة الأمريكية «قريس بيركهولدر» في شركة أرامكو، والتي قامت باكتشاف أكثر من 40 موقعًا للحضارة العبيدية بالمنطقة الشرقية، وتُعدّ من أوائل الحضارات بالعالم، تؤرخ بحوالي 6500 – 3700 قبل الميلاد.
وكحال أي مجتمع صغير، كما في سكن أرامكو (الكامب)، يسمع من خلاله الكثير من الأخبار أو إن أردت المشاهدات من خلال موظفي الشركة، خاصة أن الحقول النفطية تمتد من شمال المنطقة الشرقية، وإلى أقصى جنوبها، وكمدرسة للأطفال، كانت علاقتها بمجتمعها جيدة، ومنها كوَّنت قاعدة معلومات أتاحت لها الكشف عن مواقع تواجد هذه الحضارة.
ورغم عدم تخصّصها في المادة الأثرية إلا أنها أشبعتها بحثًا ودراسة حتى أصبحت أهم عالمة بالمجال مكتشفة تقوم بمسوحات أثرية وقبل إنشاء أية إدارة محلية لها. وأقف هنا لأحيّيها، حتى بعد وفاتها على اهتمامها وشغفها الذي أمدّنا بمواقع أثرية كموقع الدوسرية، وعين قناص، الذي جاء ضمن التراث العالمي. فهي صاحبة السبق في المسوحات الأثرية المحلية، كالمهندس المساح ذي النظرة الثاقبة، مدّتنا بالأرضية ومساحة العمل التي أكملها الآخرون من أعمال تنقيب أثري وكشف.
عملت قريس بشركة أرامكو لمدة عشرين عامًا من عام 1960 إلى 1980 كمدرّسة قبل تقاعدها في ولاية نيفادا الأمريكية. كانت خلال العطلات الأسبوعية تذهب للصحراء بحثًا عن الكسر الفخارية ومواقعها حتى كوَّنت إلمامًا خاصًّا بطبيعتها العائدة للحضارة العبيدية. ولم يكن معروفًا قبلها عن مواقع تلك الحضارة وامتدادها في الساحل الشرقي، وقدّمت بعد كشفها بعض المحاضرات، وألّفت كتابًا بالخصوص. كما أنها بالاستعانة بالعلاقات العامة لشركة أرامكو استطاعت إبلاغ المسؤولين عن مواقع تلك الحضارة بالمنطقة.
وقبل تقاعدها سلَّمت كامل مجموعتها ومذكراتها بالخصوص إلى الجهات المسؤولة ذات العلاقة بالآثار، كذلك أهدت ابنتها كامل ملاحظاتها ومجموعتها المصوَّرة إلى إحدى الجامعات الأمريكية.
وبالرغم من تلك الفترة وعمليات التنقيب الأثري المتعددة للحضارة العبيدية التي قامت بموقع الدوسرية جنوب الجبيل، والمسوحات الأولية من أعمال تنقيب للكشف في موقع عين قناص شمال الأحساء، إلا أن الكثير ما زال غامضًا عن تلك الحضارة بالمنطقة الشرقية. وما زال هناك عدد كثير من المواقع التي لم تُدرس وتُبحث بشكل علمي أشارت لها السيدة قريس، من العثور على فخاريات سطحية تفيد عن تواجد.
كما أن الامتداد العمراني يشكّل تهديدًا لمواقع هذه الحضارة الرعوية، التي لم تترك لنا الكثير من الأثر، ولأنها جاءت بالبداية، فليست هناك أهرامات تشاهد أو بناء كمدن أو معابد أو حتى حليّ ثمينة تُكتشف، إنما آبار ورعي وزراعة. فتلك الحضارة هي صاحبة السبق الأولى الحضري من دولاب وحراثة وتربية ماشية وبناء بسيط كمسكن.
ومن الأمثلة على أثر وتهديد الامتداد العمراني على المواقع الأثرية منطقة عين السيح، التي أصبحت مخططات سكنية، ورغم الاهتمام بشكل عام بالمواقع الأثرية، إلا أنها تعطينا درسًا من احتمال وقوع أخطاء، ومن أهمية دور الجمعيات المتخصصة بالتعاون مع الجهات المسؤولة عن الملف لتصحيح مسار أو المساهمة بالمجهود الأثري. فجمعيات النفع العام غير الربحية أكثر مرونة؛ نظرًا لطبيعتها، ولأنها مجموعة من المتخصصين بالغالب والهواة، والذين لديهم شغف بالمادة. وكما فعلت السيدة قريس من اكتشاف أقدم الحضارات بالمنطقة، ومن تعاون لها مع الجهات الرسمية، تأتي الجمعيات المتخصصة بدور مساند ومكمّل للجهود والبرامج القائمة التراثية، وتلك التي لها علاقة بملف الآثار.
ونذهب بالختام لنلقي تحية أخرى لتلك المدرسة، والتي نبَّهتنا بتواجد تلك الحضارة بمنطقتنا، والتي أعطتنا درسًا بأهمية البلاغات الأثرية للجهات المسؤولة.