في الثمانينيات ظهرت حقبة «علم الاجتماع الاقتصادي الجديد» الذي استحدثه عالم الاجتماع مارك غرانوفيتر في عام 1985، حين أعلنها في أحد المحافل بالولايات المتحدة، منوهاً إلى انتهاء الحقبة القديمة التي بدأت مطلع الستينيات، وفي علم الاقتصاد الجديد تم التركيز على مواضيع باتت اليوم أكثر أهمية، وكأنها محصّلة العمل الدؤوب مثل الشبكات الاجتماعية والجماعات التجارية، والتركيز على أساسيات الأطفال في الرعاية كالتعليم والصحة وخلافهما، ويبدو أن ما نحن عليه هو من جهود هؤلاء العلماء الذين استعانوا ببحوثهم ودراساتهم للاهتمام بالقوى والعقول البشرية؛ كونها الاستثمار الحقيقي.
كان الأمر لا يعدو كونه مساجلات علمية، حتى بدأ الاهتمام برعاية الجوانب التي تحفز العقول وتؤهلها حين دخل البنك الدولي كطرف مهتم بالعملية التي تحقق أهدافه في محاربة الفقر وتعزيز النمو المستدام. وتبنّي فكرة رأس المال البشري كمشروع من أجل العالم بدأه من يوليو 2021، ويضم 82 بلدا مشاركا ويحدد مساهمة الصحة والتعليم في مستوى الإنتاجية المتوقع أن يحققه الجيل القادم من الأيدي العاملة، وتقييم مقدار الدخل الذي تخسره بسبب الفجوات في رأس المال البشري، ويعتبر المشروع جهدا عالميا لتسريع زيادة الاستثمارات في البشر كماً وكيفاً وتعزيز الإنصاف والنمو الاقتصادي. استحدثته المجموعة في ظل تفشي الجائحة.
وبالعودة لتاريخ نظرية «رأس المال البشري» قبل أن يكون مشروعاً، كان مسألة قبل أن تكون نظرية وقد نبّه لها الاقتصادي الأمريكي في مطلع الستينيات «ثيودر شولتز»، حين صرّح بأن رأس المال البشري أحد أدوات الاستثمار الأكثر أهمية، في حين تكونت النظرية على يد عالم الاقتصاد غاري بيكر الذي توسع في تحليلها وبناء فرضياته، وربط السلوكيات والعادات والتغيرات وصلتها وقدرتها على الابتكار والإبداع والتطوير، وهو طاقة بل مصدر للإنتاجية بحد ذاته، بل كيف أن كل شيء مرتبط بها، كالاستقرار العائلي والتعليم المحفز له والمرأة العاملة وتكلفة العمل والكفاءة والجودة إلى آخره.
هذا التصاعد الزمني في التحليل والتغير الاجتماعي للسلوك البشري منذ أن نشأت نظرية بيكر والى اليوم، تجده مدهشاً للغاية في تغيير حتى مفهوم الثراء والشهرة بالابتكار والتطور والمعرفة، وحتى المؤهلات والمواهب والقدرات والمعرفة التقنية. فاستخدام العقل البشري أكثر ما يضمن مفهوماً لهذه النقلة في الاستثمار والإنتاجية، ولنا أن نرى أن اغلب المشاريع اليوم هي نتاج هذه العقليات المبتكرة والمطورة ذات المشاريع الذاتية التي أصبحت عالمية، والتي تُعِد العدة لتسليم ورثتها إلى الذكاء الاصطناعي.
وكما يقول الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»: «إن انتشار المعرفة والمهارة هو المفتاح للنمو الكلي في الإنتاجية.. ونرى هذا في أوجه التقدم التي صنعها عدد من البلدان التي كانت فقيرة بقيادة الصين.. قد يكون الانفتاح التجاري قد ساعد في عملية التقارب التكنولوجي لكن الأمر يتعلق في الأساس بعملية انتشار المعرفة والتشارك فيها»، وهذا هو حاصل الاهتمام بالتعليم طبعا.
@hana_maki00