مجده العنزي majda_anazy @

سؤلت مرةً عن أسباب اختفائي وعزلتي، وإن كنت فعلاً مستمتعة بهذه العزلة أم لا.. العزلة التي تحتاجها لكي ترتب أوراقك وتنظم شرود ذهنك وتنفض غبار السنين عن الأفكار التي تتبناها ولم تحدث أي نقلة لك..

عندما سؤلت هذا السؤال، استنكرت أن البعض يستفهم من استمتاع بعض الأشخاص وأنسهم بذواتهم ولا يحتاجون لأنيس بذلك الوقت تحديداً أو كما أُسميها (بالخلوة الروحية)، لأنها فعلا خلوة تجعلك تهذب روحك وتنظم عواصف داخلك، وتنفض غبار ما يعكر صفو ذهنك، بعض الأشخاص - للأسف - لا يستطيع أن يُكمل دقائق مع ذواتهم، وهذا أعدّه هروبا من أمور مهمة كثيرة، أوّلها دواخلنا، البعض يمر بحالة هلع إن أصبحت بطارية هاتفه ١ بالمائة، لأن هروبه جعله يدمن وجوده، يدمن انشغاله بالهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي، يدمن تواجده مع وبين البشر وضجيجه، هناك قاعدة حياتية أتبّعها عادةً وهي عندما أشعر أن أنسي من البشر فأعرف أن التوحش من الذات، ولكن عندما أشعر أن أنسي بذاتي فاق أنسي بالبشر فأعرف حقاً أن البشر عبء وليسوا أُنسا لي، ويقال من أنس بالله فقد استوحش من الناس، ومتى أوحشك الله من خلقه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به، يقول ‏أبو الحسين الوراق، «لا يكونُ الأنسُ باللهِ إلا ومعه التعظيم، لأنَّ كُلَّ من استأنستَ بِهِ سقط عن قلبك تعظيمُه إلا الله تعالى، فإنَّكَ لا تتزايد به أُنسًا إلا ازددتَ منه هَيبةً وتعظيمًا».

كما قال أيضاً بعض السلف في الأنس بالله: «مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها.. حلاوةَ الأنس بالله». فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

فالهدوء لا يتحمله إلا من اتصل بقوة ذاتية داخلية، ولمس عمق الأفكار والأمور التي مر بها وعالجها بإعادة تقييم مواقف لم يلتفت لها في وقتها، البعض مجرد ما يخلو بنفسه يبحث عن شخص يحدثه بالهاتف، لأنه لا يتحمل مواجهة نفسه، لا يستطيع حمل عبء روحه ويتجاهلها وينفر من تواجده معها، أُقدر كل شخص يتخذ وقتاً لنفسه لمواجهة هذه الروح التي تحتاج منا إلى إعادة تنظيم وترتيب، مثل غرفنا التي نحتاج أن نعيد ترتيب كركبتها وتنظيفها في نهاية الأسبوع بعد أسبوع مليء بساعات عمل وعدم التفرغ لها، فهذه الروح تحتاج منا وقتا نتفرغ لها نعيد هيكلتها، نقدّر قيمتها واحتياجها للعناية والاهتمام بها، كباقي الأشياء التي نهتم بها في أجسادنا، فمعرفة نفسك ومعرفة ميزانك الذي تقدّر به نفسك بين علوٍ وانخفاض ما هو إلا تقدير لذاتك، (يقال فلاناً لم ير مثل نفسه ليس كبراً بل معرفة قدر).

وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه في تقدير الذات:

ما هلك امرئٍ عرف قدره : أي مقداره ومرتبته ومنزلته

ويقول الطغرائي في قوة معرفة النفس وتقديرها:

لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ

فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ

غالى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها

فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مبتَذَلِ

وعادةُ النصلِ أن يُزْهَى بجوهرِه

وليس يعملُ إلّا في يدَيْ بَطَلِ.

فتقدير الذات في هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية ثاني احتياج يحتاجه الإنسان، فمعرفة النفس وتقديرها تسلك بنا مسالك ترتقي بها بعيداً عن سفاسف الأمور:

إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها.