hanih@iau.edu.saأ.د. هاني القحطاني

بمجرد إلقاء نظرة خاطفة على خارطة العالم، تتضح العلاقة الوثيقة بين الصحراء والعالم العربي بالدرجة الأولى، والعالم الإسلامي بالدرجة الثانية. هذا الارتباط الجغرافي بين عوامل الطبيعة وبين مجموعة إثنية من البشر (العرب) له ما يوازيه في جغرافية العالم. انظر إلى ارتباط الدول الاسكندنافية بالثلج والليل الطويل، وربما كان الاسكيمو الأكثر وضوحا في هذا المجال، وانظر إلى تأثير مياه الأمطار والفيضانات والأعاصير على سكان بنجلاديش ودول وجزر الهندو صينية، وانظر إلى افتقار روسيا لمنفذ بحري على العالم تفهم تاريخها. هذه حقائق ثابتة، إذ إن المعطيات الجغرافية ترسم بصورة كبيرة تاريخ ومستقبل أي شعب من الشعوب.

الصحراء معطى أولي أزلي للعرب لا فكاك منه. إنها تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم. إن نجاح العرب على كل الصعد يعتمد في جزء كبير منه على التعامل مع الصحراء. وعندما يصنف المؤرخ البريطاني أرنولد تونبي الحضارة العربية كإحدى الحضارات الكبرى في التاريخ، فإنه يعزو ذلك إلى ما يسميه بفكرة التحدي والاستجابة. فقد فرضت الصحراء تحديا حضاريا على العرب لكي يخرجوا من صحاريهم ويؤسسوا واحدة من أعرق حضارات العالم.

التصحر مرادف للصعوبة والشدة والفقر أحيانا وشظف العيش، وليس المرء بحاجة إلى إثبات ذلك. ولعل في إقامة كأس العالم الأخيرة في الشتاء في سابقة تاريخية في تاريخ البطولة، يشير إلى مدى قسوة الصحراء على الإنسان إذ لم يكن بإمكان غير العرب تحمل إجراء المسابقة في طقس صحراوي شديد الحرارة.

غير أن الصحراء على قسوتها بإمكانها أن تكون مصدر تميز وملهما لأصحابها على مختلف الأصعدة. الأدب العربي شعرا أم نثرا، مكتوبا أم شفاهة، مستمد من الصحراء. القيم العربية منشؤها الصحراء. حياة العربي، وجدانه، وضميره ومخياله الفكري ينطلق من الصحراء. مقابل كل ذلك فإنه يبدو أننا في عالمنا اليوم قد قطعنا الصلة تماما بالصحراء. انظر إلى مدننا العربية اليوم. لقد قطعت كل ارتباط لها مع الصحراء. إن إدراك مسؤولي التنمية العمرانية لهذه الحقيقة البديهية والتعامل معها وفق أسس علمية ومنهجية من شأنه أن يساهم في تنمية عمرانية مستدامة، على وفاق مع مكانها وبيئتها ومحيطها وأناسها.

المدينة العربية اليوم مكشوفة تماما أمام الشمس، لدرجة أن بعضها كما يتنبأ بعض الخبراء يستحيل العيش فيها إذا استمرت ظاهرة الانحباس الحراري. إذ لم يعد توفير الظل أولوية في تخطيط البيئة العمرانية المعاصرة كما كان فيما مضى. ولم تعد مدن اليوم مدنا للمشاة كما كانت بالأمس، وهذا يفقد المدينة أحد أهم مقومات إنسانيتها. وانظر إلى عمائر اليوم ترى أبنية بالرغم من أنها تناطح السماء ويكاد سنا بريق زجاجها يخطف الأبصار إلا أنها تبقى غريبة يرفضها المكان.

للصحراء جمالياتها الخاصة، في غطائها النباتي على قلته، في صخورها، وفي تكويناتها الصخرية والرملية والجيولوجية. أليس الشجيرات الصحراوية أو على الأقل تلك التي تنمو في الصحراء أنسب لحدائقنا وشوارعنا من أشجار يتم استيرادها من بيئات غير صحراوية والتي لا تنتمي للمكان؟ أليس تغطية المسطحات المفتوحة في المدن بأنواع مختلفة لونا وحجما وملمسا من الحصى أجدى من فرشها بالعشب الصناعي؟. أليس في التكوينات الرسوبية لكثير من مناطق المملكة مصادر إلهام لبناء عمارة بيئية فريدة من نوعها. إن لنا في إعادة تطوير وتهيئة وادي حنيفة بالرياض مثالا يحتذى في كيفية الارتقاء بالبيئة الطبيعية المحلية والاعتناء بها. عمارة البيئة لها هوية أيضا تماما كالعمارة.

وكما هو حال الأدب، في الفن أيضا ارتبط التجريد وهو أحد أهم المذاهب الفنية الحديثة بالصحراء لدرجة أصبح معها الفن الإسلامي يوصف بأنه فن تجريدي، وهو بطبيعة الحال يصدر عن عقل تجريدي متأصل فرضته الصحراء على ساكنيها. إن تعاملنا كمسؤولين مع الصحراء مهمة أساسية لا غنى عنها في سبيل تنمية عمرانية مستدامة.

وكما تمت الإشارة في هذه الزاوية مرارا وتكرارا فإن للصين تجربة رائدة في هذا المجال حري بنا الاستفادة منها.

أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل