د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

 حملتني سنوات عمري الماضية بعيدا عن (فعاليات) أعياد قريتي لأكثر من نصف قرن. كانت قوالب تراثية ثابتة البهجة. يرثها الآباء ثم يورثونها للأبناء. هياكلها بسيطة لكنها مبهجة. هي جزء من (معايير) الرجولة والمرجلة. أيضا للنساء في القرية مثلها وأكثر. آخر عيد عشته في قريتي الطلقية بمنطقة الباحة كان عام (1971). لم أبلغ العشرين عاما. صادحا بالتطلعات القروية. بروح رجل كامل المسؤولية. هناك (عوامل) نشمية كثيرة متداخلة، معقدة، تحمل أبعادا معروفة لأصحابها. ساهمت في هذا (الابتعاد) الطويل.

 بعد كل سنوات هذا (الغياب)، لا أدري لماذا قررت في عيد الأضحية لهذه السنة قضاء العيد في قريتي؟ هل هو نداء استغاثة العقل الباطني لتحريك ما تبقى من قواي (المتراجعة). بجانب وضوح رسائل ما تبقى من سنوات العمر المتناقصة؟ هل كان محور هذا النداء قول العرب: لم يبق من العمر أكثر مما مضى؟ هل تحركت المشاعر العميقة المكبوتة لتجعل النفس تتمنى إعادة حديث السندباد؟ أعرف وتعرف (جن المسالح) بأنه لن يعود. لكن النداء في ظاهره يعطي مساحة من الراحة حتى وإن كانت (زائفة). هذا ما تريده هذه المرحلة من العمر بعد التقاعد.

 خرجت نحو المجهول شابا، وحيدا بنفسي، وهمتها، وطموحها، وأملها. سفر كنت أعتقد أنه مؤقت. لكن طال مشواره. أصبح مستداما منعشا لطقوس حياتي البعيدة عن القرية الأم. هي المنبع، وتاريخ الأجداد. قرية وجودها ومعالمها البيئية تحمل وثائق ومعالم كفاحهم وإنجازاتهم الإنسانية على سطح تضاريسها الجبلية. بيوتها الحجرية من عطاء البيئة. كذلك الحدائق المائية والزراعية المعلقة على سفوح الجبال تتحدث عن إعجاز إنساني. أقولها بحسرة: لم نعطه حقه. لم نعرف قيمته وأهميته الحضارية حتى الآن. تراث إنساني بيئي يحمل رسالة. لماذا عجزنا -بكل علمنا وإمكانياتنا- عن قراءتها وتقديمها للعالم كإنجاز إنساني عالمي؟.

 عشت طفولتي في ربوع القرية. كنت أعتقد مع الآباء بأنني -مع جيلي- سأكون حارسا أمينا لها. أيضا حاميها، وراعيها. مواصلا درب كفاحهم وتعميق نقش حياتهم في ربوعها. انحرفت بوصلة الحياة بشخصي بعيدا عنها. لم ندرك أهميتها أو حتى المحافظة على بقائها. تهدمت في غيابنا. أصبحت أطلالا. بحاجة إلى معجزة لإحياء وظيفتها وإعادة تأهيلها إلى سابق عهدها.

 بقي داخل النفس ترسبات ذكريات مجيدة، حركت المياه الراكدة داخل أرشيف النفس بعد كل سنوات الغياب هذه. أصالة وشهامة جاءت متأخرة. حركت معها الشجون. بعد التقاعد لفظتني أمواج حياة البعد هذا. حيث يموت الإنسان قاعدا بين جدران صماء أسمنتية لا تنتمي إلى بيئتنا. تساهم بتعجيل قدوم سخرية النهاية مع اكتمال نضج العقل. كانت القرية تعتلي بنضجه وصاحبه. يصبح حكيم القرية، ومستشارها، وناصحها، وسلاح بقائها قوية عزيزة الجانب. كانت هذه خلاصة حكمة القرية وأساس بقائها.

 هل تحركت بداخلي غريزة البقاء؟ استدعيت ذكريات سنين شابة مضت، عشتها في قرية كانت هي الأم الحقيقية لشخصي. تنادت الذكريات، وأوجاع سنين الماضي والحاضر. فتذكرت هذه الأم المثالية. اخترت أن أعود إليها في مناسبة دينية. حيث التسامح يأخذ مجراه. اخترت عيد الأضحية كنقطة مالحة للعودة إلى حضن أمي القرية التي عرفتها وغادرتها عام (1391-1971) وهي متوهجة الكرم والعطاء.

 وحتى لا أكون وحيدا في العيد بعد سنوات كل هذا الغياب، عملت على تحريض أولادي وزوجاتهم وبناتي وأزواجهن لمرافقتي لقضاء أيام العيد في ربوعها. استجاب من استطاع. جاء العيد في غياب مدفع العيد. افتقدته. وجدته أول الغائبين مقارنة بعيد القرية قبل نصف قرن. تعرفون أنتم بقية حكاية التغيير. الحقيقة لم أجد القرية. أيضا وجدت شخصي وجماعتي غرباء في هذا العيد. لكن بمظاهر نعمة توحي وتقول.