لجوء الشاعر إلى إصدار مختارات شعرية من تجربته مشروطة أساسا برؤيته إلى تجربته على أنها ثراء وتنوع في الكتابة الشعرية وفق تحولاته في الحياة، وإلا لا معنى لهذه المختارات إذا لم تكن كذلك، فإذا كانت التجربة لها امتداد زمني، ففي هذه الحالة ينبغي أن تمتلك نضوجا وعمقا يستحق أن يصغي لها القراء.
وقد تكون هذه المختارات إذا ما أقدم الشاعر على إصدارها تتيح له الفرصة أن يتأمل تجربته، وكأنه يتأمل نجما في السماء، فالتجربة مثل هكذا وضع بالنسبة لشاعرها تعتبر تاريخا مستعادا للتجربة ذاتها، فالاستعادة هنا لا تعني لي سوى الذهاب إلى القصيدة في ذكرياتها الأولى، ثم الإصغاء إلى موسيقى الكلمات لحظة استدعائها للكتابة، وكأن الاستدعاء هو الولادة الثانية للقصيدة بعد طول غياب.
وبالتأكيد ما بين الولادتين حدثت هناك تحولات طالت الجسد والكلمة والمعيش اليومي، وبالتالي اكتشاف مثل هذه التحولات، أحد وجوهها هو وضع اليد على الكيفية التي نظرنا بها إلى الشعر، وتلك التصورات التي قادتنا فيها إلى رؤية الشعر وجمالياته، وهو مجسد في قصيدة.
لذلك وفق هذا المنظور يقدم الشاعر على عمل المختارات؛ كي تتاح له الفرصة أيضا لسد الفجوات لاحقا، ما أمكن ذلك، في هيكل بناء القصيدة، وهي محاولة لاستدراك ما كان يمكن قوله، وقد فات القصيدة أن تقوله، لقلة الخبرة، وحماسة البدايات، والتناظر الحاد بين الأنا والحياة.
كل هذه الأشياء في ظني يكتشفها الشاعر بمجرد ما يشرع في عمل المختارات.
بالطبع هناك تاريخ حافل من الأعمال التي تحتوي على مختارات شعرية لعدد كبير من الشعراء، يقوم شاعر بضمها بين دفتي كتاب، كديوان الحماسة لأبي تمام في العصر القديم، الذي يعد الأشهر في هذا المجال، ومختارات أدونيس للشعر العربي من الجاهلي إلى الأندلسي، في عصرنا الراهن.
لكنني هنا لا أعني البتة هذا المجال، فثمة فرق بين من يختار شعر غيره وبين شعره هو، وأعظم فرق يكمن في إسقاط ذائقته الفنية على طريقة الاختيار، ونادرا ما ترى خلاف ذلك.
ناهيك عن الإشكالات الكبرى التي ترتبط باختيارات الباحثين في المجال اللغوي الذين يوظفون المختارات الشعرية في إثبات أو نفي قاعدة لغوية، ودائما ما تأتي على حساب جماليات الشعر.
ولا أريد أن أفتح الباب على الأمثلة على هذه الفكرة، والتي تمتلئ بها كتب التراث الشعري العربي. لكني كنت أقصد من وراء هذا الحديث الالتفات إلى الأهمية التي تكتسبها المختارات، حين يقوم الشاعر نفسه بالاختيار من تجربته كي يخرجها في دفتي كتاب.
والسؤال هنا هل فكرة الاختيار مشروعة، إذا ما أقدم شاعر ما على الاختيار من تجربته؟ أليس في مثل هذا الإقدام تعسف على تجربته؟ ألا يمكن أن تكون فكرة الاختيار خاضعة لمزاج اللحظة وتدفقاتها؟
لقد رأيت الكثير من الشعراء حين يقدم على مثل هذه المختارات يستبعد قصائد ويعدل في بعضها ويضيف في بعضها الآخر، بل ويلغي قصائد أخرى وكأنه للتو تنبه إلى ما في هذه القصائد من تباعد بين فنية هذه القصائد وما وصلت إليه ذائقته من نضوج فني.
أقول هذا الكلام رغم المكاسب التي تكمن خلف القيام بهذه المختارات كما بيّنا في بداية المقال. لكن ألا يحق للتاريخ أن يحتفظ بكامل ملفاته دون مساس، إذا ما تعلق الأمر بمنجز الشاعر لأن مزاج الشاعر في الكتابة مرتبط باللحظة بأبعادها الحياتية: الاجتماعية والثقافية والروحية والاقتصادية والمكانية، وهذه ينبغي الاحتفاظ بكل ما يعّبر عنها رغم عدم قناعة الشاعر لاحقا بأنها لا تمثله.