كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعرَ الهَجَّاء بشدِّ لسانه بنِسعةٍ (سَيرٍ رفيع من جِلدٍ مَفتول)، أو تشتري منه لِسَانَه بمعروفٍ يصنعونه له، فيُمْسِك لسانَه عنهم.
وقد أقَرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذه العادة حين قال في غزوة حُنين، يوم توزيع الغنائم، عن رافع بن خُديج «رضي الله عنه»: «اقطعوا عني لسانه»، أي أسْكِتوه بالعطاء، حين اعترض على عطاء رسول الله للمؤلفة قلوبهم.
وقد فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذلك مع الحُطيئة، لما أكثر من هجاء الزبرقان بن بدر التميمي، فسجنه عمرُ في المدينة، مما حدا بالحطيئة أن يستعطفه بأبياته المشهورة:
ماذا تقولُ لأفـراخٍ بذي مرخٍ..
زُغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قَعرِ مُظلمةٍ..
فاغفر عليك سَـلامُ الله يا عمرُ
فأخرجه عُمَر -رضي الله عنه- ونهاه عن هجاء الناس، فقال الحطيئة: إذن تموت عيالي جوعاً. فاشترى عُمَر منه أعراضَ المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ منه العهد على ذلك.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حق هؤلاء الذين يؤذون الناس بألسنتهم: «إنَّ شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً يومَ القيامة مَنْ تركه الناسُ اتّقاءَ شَرّه». وفي روايةٍ أخرى: «إنَّ مِن شِرارِ الناسِ الذين يُكْرمُونَ اتّقاءَ ألْسِنَتِهم».
إن للكلمة تبِعات، ففي الدنيا قد يعلو بها شأنك ويرتفع مقامك، وبها قد تسقط من أعين الناس، وربما كانت سببًا في مقتل صاحبها.! فقد قُتِلَ أبو الطيب المتنبي لأبيات هجا فيها ضُبّة بن يزيد الأسديّ، وهو خال فاتك بن أبي جهل. ففي أحد الأيام وهو عائد إلى بغداد برفقة ابنه وخادمه، تعرَّض له فاتك مع أصحابه لينتقم لخاله ضُبَّة، فعلم المتنبي أنه مغلوبٌ وأراد الفرار، ولكنَّ خادمَه قال له: لا يتحدّث الناسُ عنك بالفرار وأنت القائل:
فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني..
والسيفُ والرُّمحُ والقرطاس والقلمُ
فقال المتنبي: قتلتني قتلك الله. فقاتلهم حتى قُتل هو وابنه وخادمه.
وربما كانت الكلمة سببًا في فتنةٍ عريضة، فقد روي عن التابعي عبدالله بن عكيم أنه قال: «لا أُعِينُ على دمِ خليفةٍ أبداً بعد عثمان». فسأله أحدهم: «يا أبا معبد: هل أعنتَ على دمه؟!». فقال «رحمه الله»: «إني أرى ذِكرَ مَساوئ الرَّجلِ عَوناً على دَمِه».
أمَّا عند الله، فأمْرُ الكلمةِ عظيم. فها هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ينصح الصحابي الجليل معاذ بن جبل، بقوله: «كُفَّ عليك هذا» وأمسك بلسانه. ثم قال له: «وهل يَكّبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائدُ ألْسِنَتِهم»!
إن منصات التواصل الاجتماعي اليوم فتحت البابَ على مِصْراعَيه ليقول أو يكتب مَن شاء ما شاء، ولكن العاقل خصيم نفسه.
أما مَنْ لم يردعه دينه أو تُسْعِفُه أخلاقه، فسيؤدّبه القانون.