أ. د. هاني القحطاني

العالم اليوم مضطرب على أكثر من صعيد، يبدو معه وكأن الإنسان قد فقد البوصلة التي توجهه إلى بر الأمان في بحثه عن الأمن والازدهار والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

فهاهو التطرف المناخي يلف العالم من أقصاه إلى أقصاه. انظر لبلاد عريقة كاليونان مهد الحضارة الغربية، إنها الآن تشتعل لدرجة تم معها إقفال أهم كنوزها السياحية في مجمع الاكروبولوس في قلب عاصمتها أثينا، في سابقة لم تتكرر في تاريخ الإغريق الحديث. ولا هم هذه الأيام لكندا وتونس والجزائر سوى إطفاء حرائقها التي حصدت أرواح العشرات.

يؤكد المنطق والعقل والعلم أن هذه الكوارث ليست سوى نتيجة للاحتباس الحراري. وهذا المصطلح تعريف مهذب لفداحة ما عمله الإنسان تجاه بيئته. الاحتباس الحراري أو ظاهرة الدفيئة، أو اتساع ثقب الأوزون، أو كثرة استخدام الوقود الأحفوري، أو التلوث، مسميات لمظهر إنساني واحد: جشع الإنسان وبحثه المنفلت من دون حساب ولا عقاب وراء رغباته التي لا تنتهي. ولا يمر يوم واحد إلا وتسمع عن هذه الظاهرة بمسميات مختلفة. كم مؤتمر عقد لمواجهتها، وكم من البحوث التي أجمعت على ضرورة الحد منها، وكم مسيرة نادت باتخاذ إجراءات فعالة ضدها، غير أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح.

وفي خضم هذه الظاهرة التي ما زالت في بداياتها، وفي معاناة البشر حيال صيف قائظ، وكأن ذلك ليس بكاف، هاهي طامة أخرى تطل برأسها: الذكاء الاصطناعي ومخاطره على البشرية. إن ما بدا في بداية الأمر وكأنه مجرد تخوف غير منطقي من سيطرة التقنية على البشر، هاهي البشرية اليوم تواجه خطر ما صنعته يداها. وكما حصل في ظاهرة المناخ بدأت الأصوات تتعالى لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي يهدد ليس فقط البشرية في معاشها، ولكن في مفهوم الحياة الإنسانية ذاتها وموقع الإنسان فيها كما صرح بذلك الأمين العام للأمم المتحدة قريبا.

هاتان الطامتان الكبريان - إضافة بالطبع إلى عدد غير قليل من الأزمات حول العالم، من توفير الغذاء، والبطالة، واتساع الهوة بين شمال غني وجنوب فقير، وعمالة الأطفال، والاتجار بالبشر، وغير ذلك - هما على المدى المنظور الخطر المحدق بالبشرية.

لعل ما يجمع بين هاتين الطامتين إضافة إلى ما سبق ذكره من مشاكل تواجه العالم هو شعور الإنسان الحديث بقدرته الخارقة على فعل كل شيء وتسخير الطبيعة لرغباته، ضاربا عرض الحائط ضآلته أمام قوى الطبيعة وعجزه أمامها وكأن جائحة كورونا التي ما زالت آثارها جاثمة على اقتصادات العالم لم تكن.

إنه مأزق أخلاقي تجد البشرية نفسها فيه. والأخلاق مفهوم مركزي في إنسانية الإنسان نفسه، في حياته، في مأكله ومشربه، وملبسه، في نظرته للحياة والكون والتعايش مع بني البشر وفق قواعد أخلاقية. الأخلاق ركيزة أساسية في الحضارة الإنسانية. وإذا غاب البعد الأخلاقي لحضارة ما فاقرأ عليها السلام. لقد كانت الأخلاق في صلب الأديان السماوية وحركات التحرر الوطني، وفي كل تحرك اجتماعي هادف يحد من سيطرة البشر على موارد الطبيعة بدون حساب أو من سيطرة الإنسان على الإنسان نفسه بنفسه. وقد حظيت الأخلاق بنصيب وافر في المعاجم الفلسفية، بل إنها ركيزة أساسية فيها.

والحديث عن الأخلاق يحيل المرء إلى ما يراه اليوم من نشاط مسعور في الغرب لفرض قيمه المرفوضة من كافة الأديان السماوية والعقل والمنطق السليم والفطرة السوية من بقية البشر على ثقافات العالم. لقد أصبح تغيير الجنس والمثلية الجنسية وتفكيك الأسرة وهدم كل ما راكمته البشرية من مثل وقيم أخلاقية عليا هو شغله الشاغل. إنها كما قال أمير الشعراء:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

فقط من باب التذكير فنحن نعيش على كرة صلبة في محيط لانهائي من النجوم والكواكب والمجرات التي يعجز الإنسان عن تصورها ناهيك عن الإحاطة بها. أرضنا هبة ربانية ليس مثلها في الوجود فحري بنا أن نستشعر قيمتها وأن تكون أفعالنا نحن البشر ذات مضمون أخلاقي بالمعنى الحضاري للكلمة.

* أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل