العالم قصيدة واحدة مهما اختلفت اللغات والألسن والثقافات، ومهما تمزقت إلى أشلاء بفعل تداعي الزمن، أو ادعى البعض من الشعراء نسبتها إليهم والبعض الآخر منهم تبنّوا ما كانت تقوله طيلة قرون حول نفسها وكأنهم يساقون إلى قرابين آلهة الشعر سوقا.
العالم لا ينفك ولا ينزاح نظره عن القصيدة وكأن فكرة الانزياح عنده هي الخوف من رغبة جارفة للتدمير، من رغبة يراها تدير رؤوس الذين يجلسون على أطنان من القنابل النووية وكأنهم جالسون على مقاعد فخمة ومريحة قبالة شواطئ للنزهة.
العالم لا يسعه أن يترك حلمه يفلت من يديه، ولا يسعه أن يقول له: اذهب حيث تذهب، وأنا أتبع آثار خطوك، هذا القول هلاك لكليهما، لا مسافة يمكنها أن تغامر للفصل بينهما، وإن حدث وصار، فإنه الموات لا محالة.
لا يسعه أيضا أن يفصح عما يجري في أعماقه، فلم نصادف مرة قصيدة خلعت عن معانيها فكرة التأويل أمام الملأ، كذلك هو العالم، فلم نصادف شخصا يقول: انظروا أيها الملأ بإمكاني أن أفتح لكم أبواب جسدي، لتدخلوا دون أن تتدفق منه قطرة دم، هل يعقل ذلك!
ولن يفعل ذلك سوى المجنون، والعالم ليس مجنونا، إنه الهارب دومًا من الإنسان إلى القصيدة، الباحث عن حلمه الخاص في الطرق المهجورة للأساطير القديمة، في الرموز التي علقت بذاكرته، ولا يزال يسمع صداها في رأسه.
يمضي العالم بلا وجهة، يهيم على وجهه ولا يفكر سوى أن يشق البحر بعصاه كي تعبر القصيدة بسلام ولا تغرق، يهيم على وجهه سنينا طويلة، بعد أن أرهقته الحروب. لكنه يعلم تمامًا أنه في النهاية سيصل إلى منزله، وقبل أن يدخل، سينظر من ثقب الباب إلى القصيدة وهي تخيط جسد الإنسان، لتعيد سيرته الأولى.
فيما مضى كان العالم مختفيا في كهفه عن الناس، مشغولا عنهم في تمكين الآلهة للعب فيما بينهم، وإعطائهم بالتالي مجالا كي يخلقوا القصيدة من العدم، ثم يلبسوها ثوبا حريريا لامعا، بعدها يأمرهم بخلعه عن جسدها، كي يضعوه على كامل جسده كعلامة أو دليل، يبصره الشعراء الذين يريدون أن يكتشفوا عمق العالم، ويمسكوا بصرخته الأولى وهو ملتف على حبله السري، لقد فعلها المتنبي، شكسبير، وكانت اللغة هي الوسيط.
للأسف ذلك زمن ولى، لم تعد اللغة وحدها هي الوسيط، والعالم يدرك في قرارة نفسه هذه الحقيقة. لكن الخطورة التي يستشعرها في وعيه أن خططه التي وضعها منذ نشأة القصيدة وخروجها من كهفه، وبث علامتها على جغرافيته، مهددة بالزوال لأن رغبة الوصول إلى عمقه أصبح متاحا ليس للشعراء وحدهم الذين كانت اللغة وسيلتهم فقط، وهذه الوسيلة كما نعرف ملعبها المجاز، والفاعل فيه هو الحلم الخارج طازجا من القصيدة.
إنه متاح أيضا لغيرهم، خصوصا الذين يجلسون كما قلنا على أطنان من القنابل النووية.
لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك، هو أن الشعراء يصلون إلى عمق العالم وصفائه بمجاز اللغة، بينما الجالسون على تلك الأطنان يصلون إلى عمق العالم على الحقيقة، وهذا هو الرعب بعينه، العالم يتشظى، رموزه وأساطيره تنكشف، ويقال إذا أردت أن تدمر قدسية العالم دمر مركزه، وليس مركزه سوى الأرض والقصيدة هي العلامة الدالة عليه.