معرفيًّا يُعرف الجهل على أنه نقيض للعلم، فلسفيا الجهل هو حالة عدم وجود المعرفة أو الفهم الصحيح للحقائق والمفاهيم الأساسية، عقليا يعتبر حالة تحجب عن الفرد الوعي والتفكير النقدي مما يؤثر على قدرته في اتخاذ القرارات الصائبة وفهم العالم من حوله.
أما منظومة الجهل فهي هيكلية اجتماعية وثقافية متوارثة تعزز وتدعم استمرارية الجهل وعدم الوعي، وتعمل لترسيخ وتحقيق مصالح من أوجد ويدير تلك المنظومة، وتشكل معركة تفكيك منظومة الجهل تحديا هاما يستدعي التفكير العميق والتحليل النقدي، إذ يتعين علينا أن نفهم جذورها وآلياتها لكي نتمكن من العمل على إزالتها وتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمعات....
تاريخ البشرية يزخر بمعارك تفكيك منظومة الجهل خاضها شعوب وأفراد بشكل ملحمي، في فترة النهضة الأوروبية تحدى العلماء والفلاسفة الأفكار السائدة والمعتقدات الخاطئة التي كان يضعها إقطاعيون وقساوسة وساسة، وعملوا على تعزيز العلم والمعرفة، كما ساهمت الثورة الصناعية بتحويل العالم وتفكيك أوهام الجهل بفضل التقدم التكنولوجي والعلمي.
ومع ذلك فإن تفكيك منظومة الجهل ليس مهمة سهلة، فالجهل لديه جيوش وأتباع وقادة، الجهل يتغلغل في أركان المجتمع ويتغلب على العقول بخبث وبراعة لذا ينبغي أن نبدأ بتعزيز التعليم والتثقيف، وهنا لابد أن أشير إلى أن التعليم ليس بأهمية جودة التعليم، كما يجب تشجيع النقد البناء والتفكير المستنير وتعزيز القدرة على التحليل والبحث عن المعرفة الصحيحة، أما تجارة الجهل فتلك معركة أخرى متقدمة يخوضها المنتفعون بشراسة ضد العلم لأن بقاءهم يعتمد على استغلال الجماهير عن طريق إبقائهم في حالة من الجهل وعدم الوعي؛ حيث يتم التلاعب بالمعرفة والحقائق العلمية لتحقيق مصالح شخصية وسياسية واقتصادية من خلال نشر المعلومات الخاطئة والتضليل وإشاعة المفاهيم المغلوطة مما يؤدي إلى تضييع الفرص التنموية وتعزيز الجمود في المجتمعات....
مثلا تصديق الشائعات الطبية، في القرن العشرين، كان هناك انتشار واسع لشائعات حول لقاحات الأطفال وارتباطها بالتوحد وتأخر النمو وضمور العضلات، الأمر الذي أثار القلق والخوف في المجتمع وأدى إلى تراجع معدلات التطعيم، وبالتالي تفشي الأمراض التي كان يمكن الوقاية منها، كما من المعروف أن السياسة تعد مجالا حساسا جدا، وقد تم استغلال الجماهير عبر العصور المتلاحقة عبر نشر الأخبار المزيفة وإشاعة المفاهيم السياسية الخاطئة، على سبيل المثال في العقود الأخيرة، شهدنا تأثر العديد من الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية بانتشار الأخبار الكاذبة والتضليل السياسي، مما أثر على العملية الديمقراطية وقرارات المواطنين فكانت النتيجة حكومات مؤدلجة أضاعت خيرات البلاد والعباد، في عصر الإعلام الحديث يتعرض الجمهور لموجة هائلة من المعلومات التي تهدف إلى نشر الجهل والتضليل والسيطرة على ردود أفعال الجماهير...!
منذ بداية التاريخ وحتى اليوم، كانت التحديات التي تواجه البشرية كثيرة ومتنوعة، ولكن أحد أهم التحديات التي لا تزال تؤثر على تقدم المجتمعات هو الجهل، لأنه يؤثر سلبا على التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للأمم، وأن قضية تفكيك منظومة الجهل تبقى مشكلة عالمية لا أرى إمكانية لحسمها نظرا لضراوة وإمكانيات المتاجرين بالجهل لكن يمكن التقليل من آثارها...!
باختصار، تفكيك منظومة الجهل يتطلب جهودا مستمرة ومتعددة المجالات ويجب علينا أن نتعلم من التاريخ ونستوحي الدروس من التحولات الناجحة التي حدثت في الماضي، إنها مهمة تتطلب إرادة قوية وتعاونا جماعيا لتحقيق تغيير إيجابي حقيقي في المجتمعات وتحقيق التقدم الفكري والثقافي.