جاء في السيرة النبوية أن رسول الله ﷺ حين اتفق مع قريش في صلح الحديبية، دعا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقال له: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل بن عمرو (ممثل قريش في مفاوضات الصلح): «أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب».
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال المصطفى ﷺ: «اكتب: باسمك اللهم».
ثم قال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله».
فقال سهيل: «لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله».
فقال ﷺ: «إني رسول الله، وإنْ كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله». ثم اتفقوا على البنود المعروفة في صلح الحديبية.
تظهر في هذا الموقف العصيب حكمة رسول الله ﷺ وواقعيته، فقد تنازل عن بعض الأمور الشكلية من أجل تحقيق المصلحة الأكبر والمكاسب الحقيقية.
إن لأفكارنا وقناعاتنا تأثيرا كبيرا على سلوكياتنا، وطريقة تعاطينا مع الأحداث والناس من حولنا. لذلك نادى الكثير بمراقبة الأفكار، فهي كبرنامج التشغيل «software» الذي نعمل به ونتفاعل من خلاله.
فكرة «إما كل شيء أو لا شيء»، هي إحدى الأفكار الضارة التي أعتقد أن لها انعكاسًا كبيرًا على حياتنا، وأراها متجسدةً في الواقع بصورٍ مختلفة، وتتمثل في رفض الأمور والخيارات حين لا تأتي كاملة كما نحب ونتمنى ونخطط، والشعور بمرارة الخسارة.
إن من أهم السمات التي يتحلّى بها الناجحون -كلٌّ في مجاله- هي الواقعية والمرونة في تقبّل الممكن والمتاح، وتجاوز الفجوة بين ما نريد وما هو واقع أو متوافر الآن.
أما المثاليون، لا سيما المتطرفين منهم، فهم لا ينظرون لأي اعتبارات أو معطيات قد تؤثر على مبتغاهم ومرادهم، بل يرون أنَّ على الكونِ كله أنْ يُلبّي رغباتهم الأولى، وهذا بلا شك نتيجة شعورهم الزائف والمتضخم بـ «الاستحقاق العالي».
إن تجارب الحياة علَّمت أبا الطيب المتنبي، وعلمتنا أن:
ما (كلُّ) ما يتمنّى المرءُ يُدرِكُهُ ...
تجري الرياحُ بما لا تَشْتهي السُّفنُ
إن قبطان السفينة، أو كما يُسمى في الخليج «النوخذة»، يعلم يقينًا أن الطقس لن يكون مناسبًا والبحر هادئًا على الدوام، بل قد تعترضه عواصف ورياح هوجاء لم يتوقعها، ولكنه يعرف كيف يتقبل الواقع ويتعامل معه بحكمة، فيقرر متى يمد أشرعته، ومتى يطويها.
إن فكرة «إما كل شيء أو لا شيء»، بنرجسيتها الطاغية، تحرم أصحابها من خيرٍ كثير ومكاسب جَمَّة.
والعاقل الفَطِن هو الذي يتقبل الواقع بصدرٍ رَحب، ويعمل على تحسينه، ويؤمن بالخير في كل قَدَر، ويرى النور وراء كل عتمة، ويرضى بالقليل الآن، ليكسب الكثير لاحقًا، ويعلم أن الأمور ببساطة لا تأتي دائمًا كما نحب.