الزمن هو أصعب لغز يواجه البشرية؛ حيث نضطر بسبب استمرار الواقع وثباته إلى تقسيمه للحظات منفصلة حتى نتمكن من إدراكه، فنحن ندرك الواقع وكأننا ننظر من شق ضيق، وما نراه من خلال هذا الشق نسميه الحاضر، أما ما رأيناه ولم نعُد نراه نسميه الماضي، وما لا نراه على الإطلاق ونتوقعه فهو المستقبل، ولتجسيد الفكرة فلنتخيل مسافرا ساذجا ينتقل من بلدة لأخرى، ويعتقد أن المدينة التي غادرها الأسبوع الماضي لم تعُد موجودة الآن، ولم يبقَ منها سوى ذكرى، حيث هدمت جدرانها ومات السكان أو هربوا.
أما التي سيصلها في غضون أيام فليست موجودة الآن، ولكنها تبنى على عجل لاستقباله، وستكون جاهزة ومأهولة بالسكان حين وصوله، وستتلاشى في اليوم التالي لرحيله كالأولى، وبالرغم من اندهاشنا من حماقة تفكيره، فهذه الطريقة التي نستخدمها في فهم الأشياء في الزمن، فكل شيء يمضي ولا شيء يعود، انتهى الربيع ولم يعُد موجودا، ولم يأتِ الخريف فهو غير موجود حتى الآن، والموجود هو الحاضر، رغم أنه لحظة يستحيل الإمساك بها لأنها تذوب باستمرارية في الماضي، فهناك خطأ ما في موقفنا المعتاد تجاه الزمن ولا بد من محاولة اكتشافه، فالمفهوم الحالي للوقت في نظرنا يبدو فيه العالم نافورة من الألعاب النارية المتدفقة باستمرار، كل شرارة تومض للحظة وتختفي، ولن تظهر مرة أخرى.
والومضات في تتابع مستمر، وعدد الشرارات لا حصر له، وكلها تنتج انطباع اللهب رغم أنه غير موجود في الواقع، فحالنا كالأعمى الذي يستشعر بعصاه أحجار الطريق وأعمدة الإنارة وجدران المنازل ولا يؤمن إلا بوجود الأشياء التي يلمسها الآن فقط، فما مر به قد اختفى ولن يعود أبدا! وما لم يصل إليه بعد هو غير موجود. فهو يتذكر الطريق التي قطعها، ويتوقع أن يجد طريقا أمامه، لكنه لا ينظر للأمام ولا إلى الوراء لأنه لا يرى شيئا، والعصا التي هي أداة إدراكه لها طول محدود صغير جدا، وبعدها يبدأ العدم بالنسبة له. وقد يجعلنا ذلك نعترف بأنه لا يمكن للماضي والمستقبل إلا أن يكونا متواجدين حاليا، فإذا لم يكونا موجودين فلا وجود للحاضر أيضا. فهما بلا شك موجودان معا في مكان ما لكننا لا نراهما. كما أننا مجبرون على الاعتراف بعدم اختلاف الماضي والحاضر والمستقبل عن الآخر في أي شيء، حيث يوجد حاضر واحد فقط، هو الآن الأبدية، لكننا لا نستوعب ذلك لأننا في كل لحظة لا ندرك سوى جزء صغير من هذا الحاضر ونعده موجودا وننكر الوجود الحقيقي لأي شيء آخر، ففي كل لحظة معينة يكون كل مستقبل العالم محددا مسبقا وموجودا.
ولكن تحديده بشروط، أي يجب أن يكون هناك مستقبل ما أم آخر وفقا لاتجاه الأحداث في اللحظة المعينة ما لم يدخل أي عامل جديد، ولا يمكن أن يأتي العامل الجديد إلا من جانب الوعي والإرادة الناتجة عنه، وعدم فهمنا للعلاقة بين الحاضر والماضي يعيقنا عن الفهم الصحيح لعلاقة الحاضر بالمستقبل. ولا يوجد اختلاف في الرأي إلا بما يتعلق بالمستقبل فقط، أما الماضي فالجميع متفقون على أنه مضى ولم يعد موجودا الآن، وأنه كان كما كان، فعلاقتنا بالماضي والمستقبل أكثر تعقيدا مما تبدو عليه في الواقع، ففي الماضي وراءنا لا يكمن ما حدث فقط، بل أيضا ما كان يمكن أن يحدث. وكذلك لا يكمن في المستقبل ما سيكون فقط، بل أيضًا كل ما قد يكون، فالماضي والمستقبل موجودان بالتساوي في جميع إمكانياتهما وبشكل متساوٍ مع الحاضر.