د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

قرية حجرية تراثية تحمل تراكم جفاء سنين العقود الخمسة الماضية. قرية تحمل مفاتيح لأقفال لـم تعد موجودة.

قرية بدون نبض رغم احتوائها قلب حياة الـقرون الماضية. قرية بدون أهل رغم وجودهم أحياء بجانبها. قرية أصبحت ضحيّة تغيّرات متطلبات الحياة الحديثة. قرية انتهت فترة صلاحيتها لـلـسكن الجماعي التكافلي. قرية ارتفعت قامات الـبيوت الاسمنتية في محيطها، تحمل خصوصيات مبهمة، عمّقت فجوة الهجر والـهجرة. إنها قصة كل قرية تاريخية في منطقة الباحة.

هل أصبح دور أحفاد أهل القرية تنفس عبق تاريخها والـتلـذذ ب(بنّة) موقعها؟ هل يعيشون عجزا أمام عظمة دورها في صباهم؟ ماض قريب عاشوه وعايشوه.

هل يأخذ العتاب مداه في نفوسهم كأحفاد وأبناء من شيدها؟ أصبحت قرية تراثية في حياة من كانت تحتضنهم أطفالا. في منطقة الـباحة تشاهد قرى تاريخية معزولة مهدمة، تجاذبك حسرة الضياع في صمت يوحي ويقول.

قرية (الـعبادل) مبنيّة من قوالـب حجرية شذبتها همّة الأجداد، وحاجتهم لجعل الحجر حيّا يحضنهم حماية وسندا. حجارة تؤكد إخلاص، وجبروت، وبأس، وهمة، وأمل من كان يقطنها عبر الـقرون. تنطق بعظمة الأجداد. جعلوها هوية المكان مثل أنفسهم. الـبشر أهلها كذلك الحجارة الصماء.

اختيار موقع القرية يوحي ويقول.

حدده فكر أهلها والحجر. شكّل موقعها هوية تخطيطها بمنافع مستدامة. جعلوا الحجر شريك حياة، بملامح تفرض الاحترام حتى في ظل الفناء والموت. وتلك معجزة السابقين من الأجداد. هكذا قرى منطقة الباحة التراثية.

الـقوالـب الحجرية شكّلـت شخصية وهياكل بيوت الـقرية. جعلـتها مسكنا يحضن أفئدتهم في ظل حضارة الـرمق الأخير. حضارة الحجر بثت الحياة مشاعر تسري في المكان. نحتوه موطنا يشاركهم همّ الحياة وحبها، لـيروي لـلـتاريخ قصة كانت لبشر هم جزء من تركيبة صخورها قوة وشأنا. بقي من الـقرية صخورها الـصامتة، تحمل ثقل أوزان بعضها البعض، في جدران تعاني وتقاوم الجفاء.

هل أصبحت ورطة أمام الأحفاد؟ ترى في الـقرية جذوع خشب شجر الـعرعر، والـطلـح، والـسدر، والـعتم. أوتاد قوية قائمة، تعاني ثقل مساندة قوالـب الجدران الحجرية. حتى المدر الذي يغطي سقوف منازل الـقرية، حولـه المطر طينا ينساب سائلا يصب في بطن بيوتها. تعاطف ماء المطر فأزاح مدر سقوف البيوت. جعلها نافذة لرؤية السماء. في هذا رحمة لأرواح مكونات البيوت الداخلية. تغادر عبرها إلى خالقها بعد خنق الهجر والإهمال.

المدر علـى سقوف بيوتها كان يستر أجساد أهلـها الـنحيلـة. يحفظ أسرار مناجاة ربهم في ليال معاناتهم اليومية. يبثونها نفحات لـعلاج تعبهم الـيومي المستدام. بهجة سعادة أرواحهم العاشقة المحبة تراها في تزاحم مصفوفات البيوت حول طرقاتها المتعرجة، والمسقوفة في بعضها. عاد تراب سقوف المنازل طينا لـيدفن الأسرار. هـل هـذه رسالـة تراب سقوفها الأخيرة؟ لا ترى الـطين إلا مع ماء المطر. لكن ترى مشاهد جفاف الـطين وتراكمه يحضن قواعد بطون منازل القرية. ليست قبورا لـكنها معالـم لحياة كانت. تحمل رسالـة عنوانها: الحياة مرّت من هنا. كل المشاهد تؤكد نظام حياة ساد وانقرض.

في المكان تستشعر مزيج المشاعر الصامتة والصادمة.

قرية (العبادل) التراثية تعج بمشاهد يشوبها صمت التأمل وتداعياته. لا تسمع لها حسّا رغم أنها صوت مجلجل قادم من أعماق الـتاريخ. يسري من الحاضر إلـى المستقبل، ربما بحثا عن الإنقاذ.

وقفت في طرقاتها الـيابسة. رأيتها كيانا مستقلا بتصميم يحترم أقدام أهلها الحافية. جعلوها تكريما مستداما لأقدام حملـتهم في مشاوير كفاحهم لـقرون طويلة. طرق تؤكد أنهم مروا من هنا أحياء وأم وات. هـل كانوا يتخيلون موتها وانتهاء عناق بطون الأقدام للثرى في طرقاتها؟ جاءت أجيال قطعت حبال الـتواصل مع قرى أصبحت تراثية. كنت أحدهم. قطعناها عنوة دون قصد..

ويستمر الحديث بعنوان آخر.