صحيفة اليوم

وداعاً .. يوتوبيا الأوهام الكبيرة

هأنذا، أيها الصديق المندفع في الفراغ، أحدق في الصورة الماثلة أمامي مرة أخرى واتساءل مع أمل دنقل قائلاً: "أترى كان ذاك الصغير أنا، أم ترى كان غيري" ؟ كل شيء في تلك الصورة القديمة يقول: لقد كنت شخصا آخر، فأنت لا تعبر النهر مرتين ! لقد امتلك الطفل ـ الذي كنته ـ خيالا حالما لا يعترف بالحدود . كان كالإسكندر الأكبر ميالاً إلى الفتح والبناء والتركيب ولكن على طريقته الخاصة . كان ـ آنذاك ـ تواقا إلى تكوير الدنيا في يده الصغيرتين، والسيطرة على كل الجهات. مشحونا بعفوية الطفولة واندفاعها مال إلى تصديق كثير من اليوتوبيات والأفكار اللامعة البراقة. انبهر بأدبيات الوهم، وبديع الخطب، وبلاغة البيانات، وصخب الميكرفونات صدق الأكذوبة التي تزعم امتلاك مفاتيح الغد الجميل، حيث تنام النملة مطمئنة إلى جانب الفيل، وبالخطب التي تعد بالمسكن والدواء والرغيف، مبتدئة ومنتهية ـ كالعادة بسين التسويف . ثم استيقظ ذات يوم على حقيقة مضمونها أن كل يوتوبيا على هذه الأرض جميلة وبراقة، وكلها تدعي وصلا بليلى الحرية والعدالة والحقيقة، لكن المشكلة تكمن في البشر أنفسهم، أي في أولئك القائمين على التطبيق، أو بالأحرى في أولئك القائمين على استغلالها لأهداف خاصة . يكفي ـ يا صديقي ـ أن تشاهد الشاشة الصغيرة لترى بأم عينيك كيف تتساقط أوراق التوت ورقة بعد أخرى، وكيف يكون الدمار والإرهاب والجرائم والمجاعات موجزاً للنشرة، وكيف يهندس كل ذلك الخراب باسم كل القيم البراقة. يكفي، يا صديقي، أن تتذكر كيف أجهضت أحلام مهندسي المدن الفاضلة المتطلعين إلى عصور خالية من الصراع والنقائض والأزمات، عصور منزوعة الأنياب والمخالب. هكذا ذبل ضوء المصباح السحري، وتراجعت سحب الأوهام، ودب السأم في نفس الإسكندر الصغير. فالسأم ليس سوى حالة تعكس فقدان الصلة بالأفكار والأشياء والأشخاص. عندما تفقد اللعبة بريقها وجاذبيتها تضعف الصلة بين الطفل وبينها فيهجرها باحثا عن لعبة جديدة . ولد الإسكندر الأصغر القابع في الذاكرة في زمن الأخطاء والتناقضات والشعارات والهتافات. ولد في زمن اللافتات الكبيرة، فشهد عدة حروب خاسرة وفي كل حرب يستبدل مذياعه القديم بمذياع جديد أكثر قدرة على التقاط أخبار الانتصارات والإنجازات الأسطورية، عله يعثر على انتصار حضاري حقيقي واحد عبر موجاته الوسطى أو القصار، لكن أذنيه قد طالتا وتدلتا حتى وصلتا إلى كتفيه دون طائل وكانت حصيلة الترقب والانتظار سلسلة من مآزق التخلف والانكسار . بدأت اللعبة تفقد بريقها وجاذبيتها، وأرخى السأم سدوله فأدرك الإسكندر الأصغر القابع في العقل والذاكرة أن معنى (يوتوبيا) في أصلها الإغريقي هو (اللامكان) وحرفت الكلمة لتصبح (خير مكان) لكن ذلك التحريف الحالم الخير لم يحول الوهم إلى حقيقة، ولا الأشواك إلى غابات من الكروم. الأحلام، يا صديقي، مشاعة كالهواء. ويستطيع أي منا أن يسافر على أجنحتها السحرية أينما شاء. وكان ذلك حلما غير قابل للتطبيق . أزاح الطفل الكبير صورة الإسكندر المعلقة على جدار الذاكرة، ذلك الإسكندر الذي أفنى وقتا طويلا من عمره يحارب طواحين الهواء بحثا عن حليب العصافير، وأقام مكانها صورة (ديوجين) صورة يمتلك صاحبها فراسة لا تخطئ، وقدرة خارقة على تقييم الأشياء. أجل تخلصت من ذلك الإسكندر الصغير المولع بسماع الخطب الانفعالية التي لا تستطيع التفاعل مع أي فعل حضاري آخر .. تخلصت من كل الاسطوانات المشروخة ذات الإيقاع النشاز الآتي من عصور سحيقة. الآن وقد أصبحت الأحداث تتوالى بالشكل المرسوم لها سواء أرخيت أعصابك أم شددتها، بدأ الطفل نفسه يعيد النظر في قائمة أولوياته. لا ينوي هذا الطفل الكبير أن يلعب من جديد دوراً دونكيشوتيا عديم الجدوى، فكل ما يطمح إليه هو أن يجد بقعة صغيرة على هذا الكوكب يمارس فيها حقه في الحياة. ها هو يحاول الآن، معرفة من هو، وإلى أين يتجه، وما يعنيه ومالا يعنيه من (قائمة القضايا) ولا عجب وقد أدرك حقيقته تلك أن يعجب من أولئك الذين لا يحسنون اختيار القضايا التي يحاربون من أجلها، أو المعارك التي ينبغي أن يخوضوها. أنت كذلك ـ يا صديقي ـ ستجد في طريقك أناسا تائهين بلا بوصلة، يهتفون للفراغ، ويصفقون للعدم. لكن تذكر ان أسوأ انواع الغفلة ألا يعرف المرء لماذا يحب، ولماذا يكره. إن أسوأ أنواع الغفلة هو أن تصبح قشة مسلوبة الإرادة تتقاذفها الرياح ذات اليمين وذات الشمال. الآن فقط ادركت لماذا تمنى (فيليب) والد الإسكندر لو أن ابنه قد كرس حياته في دراسة الفلسفة معللا ذلك بقوله: (حتى لا يفعل أشياء كثيرة من نوع الأشياء التي فعلتها) ولعل الإسكندر الأكبر قد تأمل وهو على فراش المرض رغبة والده تلك، ولعله قد فكر في البحث عن لعبة جديدة، لكن الحمى الفارسية لم تمهله طويلا .ها هو الإسكندر الصغير يأتي مرة أخرى لزيارة ديوجين في صومعته، يقف عند باب الصومعة متسائلا: (أي شيء تريد يا ديوجين ؟) مثل هذا السؤال كان في الماضي يستفزك فتطير فرحا، أما الآن وقد فرغت نفسك لتبجيل الحياة باعتبارها الورقة الخضراء الوحيدة، فلم يعد لذلك السؤال سحره السابق، وها أنت تعيد ترتيب الأولويات قبل أن تداهمك الحمى التي داهمت الإسكندر من قبل، وعندما يعيد الإسكندر طرح السؤال مرة أخرى، فإنك تفعل ما فعله قرينك ديوجين بالأمس، تنظر إلى الإسكندر نظرة باردة لتجيب عن سؤاله قائلاً: أريد فقط ألا تمنع عني أشعة الشمس ! ألا يصلح الفلاسفة لإدارة شؤون العالم ؟ ألم يكن التاريخ الحقيقي هو تاريخ الأفكار وليس تاريخ الأحداث ؟ ثم أليس الأجدى بعد هذا ان يبحث المرء عن لعبة أخرى أكثر إمتاعاً ؟!