د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

سأتجنب سيرة تاريخ المدرّجات في جبال مناطقنا المطيرة، جنوب غرب المملكة، الحديث في هذا المقال الثاني عشر، منصب على مصيرها بسبب تحديات خطيرة ومصيرية تواجهها، ستكتب نهايتها في حال تفاقمها، ستضع نهاية لوظيفتها ولدورها التاريخي، المائي، والزراعي، والبيئي، والاجتماعي، هذه المدرجات لن تصبح أطلالا في حال إهمالها، لكنها ستختفي، وتصبح نسيا منسيا مع مرور الزمن. ماذا سنخسر بفقدها؟

ثلاثة محاور رئيسية تشكل هيكل منفعة هذه المدرجات: الحجر، والمدر، والمطر. جعلها إنسان المنطقة عبر تاريخه، محور البقاء، كانت العقول، عبر القرون، منصبّة على فكرة استدامة البقاء في مناطقها، من خلال جعلها مستدامة العطاء. تحقق البقاء لإنسانها العربي. جعل المطر والحجر والمدر أساس خارطة البقاء عبر كل الأزمنة. وصلت إلينا نحن أجيال النفط الحديثة، ضيعناها وضيعنا وظيفتها، وأهدفها، وأهميتها.

هل فكرنا في أطوال هذه المدرجات التي تشكل أحواض حجرية على سفوح جبالنا؟ فكروا في الرقم وتخيلوا طوله، أستطيع تقديره بمسافة تزيد بمراحل عن محيط الكرة الأرضية، وتقدر بأكثر من «40» ألف كيلو متر، هذه المسافة ليست خطا وهميا، لكنها جدار حجري بارتفاعات مختلفة. تم بناؤه بعرق الجبين وسواعد الذين مضوا. هنا تتجلى أهمية هذه المدرجات. شيدها الإنسان العربي عبر تاريخ وجوده. أصبحت مفخرة لفكر استطاع ترسيخ مفهوم البقاء بتوظيف الحجر والمدر والمطر. وقد نجح. لماذا نفشل نحن؟

في مناطقنا الجغرافية المطيرة لا يتحقق هدف بقاء الإنسان بفقد أحد تلك المحاور الثلاثة، في حال فقدنا الحجر فهذا يعني تهدم المدرجات التي تم بنائها بهذا الحجر الدائم الصلابة، وهذا عطاء الحجر المستدام.

ماذا عن المدر؟ هو مهد الزراعة والغطاء النباتي. إذا كان لدينا ندرة في المياه فإن لدينا أيضا ندرة في التربة الصالحة للزراعة. فكان لا بد من المحافظة عليها من الضياع بجرفها وتجريفها من سفوح الجبال، غياب التربة لا يكتب البقاء حتى في وجود محوري المطر والحجر.

ماذا عن المطر؟ وحده لا ينفع في مناطقنا المطيرة الخالية من المدر والمدرجات كأوعية لهذه التربة الصالحة للزراعة، يصبح المطر أكثر خطورة. إن هطوله في غياب التربة عبارة عن مياه لغسيل القشرة الصماء الخارجية للصخور الميتة وللطبقات الصمّاء، لكن في وجود المدرجات كأحواض تربة تعمل لخزن ماء المطر وتغذية المياه الجوفية، أكرر.. تهدم الحجر يعني تهدم المدرجات كأوعية حافظة لماء المطر، هذا يعني أن المطر في غياب المدرجات وتربتها تصبح منفعته معدومة، بل ويشكل عاملا من عوامل تصحر مناطقنا الجبلية المطيرة. وقد بدأت.. وتفاقمت. تذكروا.. لا مطر بدون غطاء نباتي.

مع استمرار المؤشرات، غياب هذه المدرجات التراثية والتاريخية ينبئ بقدوم كارثة مائية، وبيئية، وزراعية، وإنسانية، حاليا ما تبقى من المدرجات إما مملوكة لأفراد أو غير مملوكة لأحد. جميعها تواجه نفس التحديات. وتحتاج إلى مشروع وطني لإنقاذها.

نحن نخسر المليارات لأعذبة مياه البحر بوسائل لها عمر افتراضي، وهذا يتطلب أمولا طائلة لا يتوقف مدادها، بينما لو تم توجيه مثل هذه المليارات إلى بناء المدرجات والحفاظ على القائم منها لحقننا استدامة تغذية المياه الجوفية، وحققنا استدامة حصاد المطر إلى الأبد.

مشروع ناديت به منذ أكثر من ثلاثة عقود، لتحقيق استدامة حصاد المطر، لتغذية المياه الجوفية، في جبالنا المطيرة جنوب غرب المملكة، مشروع لحصد ما يزيد عن «60» مليار متر مكعب سنويا من مياه الأمطار. يقل أو يزيد الرقم حسب كثافة هطولها السنوي.

لو تم إنجاز هذا المشروع، فسيكون الأهم عبر تاريخ جزيرة العرب بل والعالم. تحدثت عنه في كتابي بعنوان: «كيف نحول المطر إلى مخزون استراتيجي، بناء المستحيل». ويستمر الحديث بعنوان آخر.