د. محمد حامد الغامدي


 حرّكت ندرة البصل اهتمام غاب عن حقيقة ندرة الماء، استعرضت هذه المفارقة، ليس بهدف زيادة مساحة الضحك، ماتت جذوره عندي منذ كتابي الأول بعنوان: قبل أن تنضب المياه. تم وأده، لم يُعط الفسح للنشر، حفاظا على مشاعر محبي البصل. ماذا أقول لأمة أزعجها ندرة البصل، ولم يزعجها ندرة الماء ونضوبه؟ تساءلت لماذا؟ ليس بهدف الحصول على إجابة، لكن بهدف زيادة مساحة الفرجة على مسرحيات الندرة التي تعاني منها الأرض العربية وناسها. وبسبب كثرتها لم يعد العرب يعرفوا الأهم قبل المهم.
 مع الاهتمام بندرة البصل في سوق الأكلات العربية، تذكرت ما ذكرته في أحد البرامج التلفزيونية من أن «القيمة الحالية للماء غير عادلة»، فتعالت الأصوات تغني وتنشد بأن شخصي ينادي بزيادة أسعار الماء، رفعوا لشخصي كل بيارق الاحتجاج، وقتها غاب فهم الفرق بين ندرة البصل وندرة الماء، ومع تفشي مرض ندرة البصل أدركت غياب التمييز بين خط البصل الأبيض وخط الماء الأسود. وهذا يؤثر على استنتاجات وقرارات «مرّني عند الغروب» عند العرب.
 وصل سوء التمييز حد «تَقْويلي» شيء لم أقله. فتذكرت في حينه بصل زوجة فرعون. سلاحها لتأديب النسوة في مجلسها. هذا يؤكد أن البصل يعرج بالمزاج العربي إلى ملكوت المقام العالي في سماء المدن العربية.
 تساءلت من أكون حتى أدعوا إلى زيادة سعر الماء؟ لم تصدر مني أي دعوة بذلك عبر تاريخي المائي «المودماني». كلما قلته أن سعر الماء غير عادل. ذلك في تجليات الحديث مع برنامج كان يبحث عن شهرة «بصلية»، على حساب ندرة المياه الجوفية واستنزافها. لو كنت مسؤولا لجعلت الماء أغلى شيء في السعودية، هذا ما قلته، وسأكررها. هناك فرق بين طرح الرأي وبين الدعوة المباشرة إلى رفع سعر الماء كسلعة. لماذا يتجاهلون أن الماء بالفعل هو أغلى شيء، وأن دولتنا «يحفظها الله»، تعمل جاهده لتحمل تكاليفه الباهظة؟
 جاءت ندرة البصل وزاد سعره ليثبت لكل محبي شوربة البصل أن ما قلته هو صحيح، وسيظل كذلك. لماذا تكون الندرة صحيحة مع البصل وغير صحيحة مع الماء؟ سؤال مشروع من منطلق أن البصل أهم عند العرب من الماء الذي يستنزفونه دون وعي بأهميته، ومدى خطورة ذلك على مستقبل البصل.
 أضع الجميع أمام طاولة مشرحتي. أتخيلهم يبحثون عن البصل ولا يندهشون من أن سعر الكيلو الواحد قد يزيد عن سعر طن الماء. ورغم ذلك أتساءل أيهما أهم لهذه الصحاري والقفار البصل أم الماء؟
أعترف بأن البصل يدخل في كل طبخة. كما تقول العرب حفظها الله من الزوال. وجودهم نعمة لأنهم أعطوا للبصل في ظل ندرته قيمة أعلى من قيمة الماء في ظل ندرته. لا أرغب تحويل الاهتمام نحو شواء البصل بدلا من سلقه في الماء حتى لا يتهمني منطقهم بأني أنطق بما لا يُنطق.
 مع ندرة البصل هاج الناس وماجوا. مع ندرة الماء هاجوا وماجوا للمزيد من استنزافه. اسألوا واحة الأحساء، الوحيدة التي تزرع البصل الممشوق القوام. وتطفوا عندي علامات التعجب من الأصوات البصلية التي تنادي بزرع البصل حتى بماء التحلية. البصل عندهم سلعة استراتيجية. يؤجج نزول دموعهم بدون تكلفة تحريك المشاعر.
 يا بصل يا محرك المفارقات والتناقضات. يا بصل يا دهشة التساؤلات الاستراتيجية حول مستقبل مياه العرب. أتحدث عن غياب هذه الدهشة مع استنزافنا 700 مليار متر مكعب من مياهنا الجوفية خلال أقل من عقدين، على زراعات عشوائية توقفت. 90 % من احتياجاتنا من المياه مصدرها المياه الجوفية، التي لا ترتقي لأهمية البصل. فأعتذر.
@DrAlghamdiMH