عبدالله الغنام


- بين الفينة والأخرى تظهر في بعض وسائل التواصل الاجتماعي كلمات براقة مثل:»لا تحرق نفسك من أجل الآخرين» أو غيرها من المسميات، ولكن المسألة لا بد فيها من التفصيل والتوضيح.
- أولا لا يمكن استخدام جملة «لا تحرق نفسك من أجل الآخرين» من أجل التهرب من المسؤولية المهنية أو الأسرية أو الاجتماعية أو غيرها، ولا يمكن كذلك أن ننصح بها الوالدين اللذين أصلا بالفطرة السوية لديهما التضحية للأبناء والأسرة أمر طبيعي، نعم، خلال مراحل التربية هناك فترات من الحزن أو الألم أو التعب أو حتى الملل، ولكني لا أعتقد أن تلك الجملة تنطبق عليهما، روي أن أم سفيان الثوري قالت له: «يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي» فهل العاقل الحكيم سيقول لها: لا تحرقي نفسك من أجل ولدك، واستمتعي بوقتك وشبابك؟! بل لولا الله ثم أم الأمام أحمد بن حنبل، وكذلك تضحية أم الأمام الشافعي لما عرفنا هذين الإمامين الفذين، فتحية إكبار وإجلال لكل أم وأب ضحوا «وأحرقوا أنفسهم» حتى تُضاء الدنيا بالعباقرة والعظماء والعلماء والأدباء والقادة عبر التاريخ.
أما الفئة الأخرى، فهم أولئك الذين تركوا بصمة وأثر في الحياة، فأديسون مثلا عمل ليلا ونهارا، ونيوتن كان كثير السهر والتفكير والعمل، والبخاري كان يستيقظ من النوم عدة مرات على ضوء الشمعة ليدون الملاحظات والمراجعات لكتابه الصحيح، فهؤلاء ومن أراد أن يسلك طريقهم سوف يحترقون دوما بسبب الهمة العالية، والأهداف الصعبة المراد تحقيقه، ويُذكر أنه حين مرض الإمام ابن حنبل في كبره، أرسل له الخليفة المتوكل طبيبه الخاص، فرجع له الطبيب قائلا: ليس به علة يا أمير المؤمنين، إنما هي كثرة العبادة والعلم، أي أن الإمام أحرق نفسه من أجل العبادة، وإحترق من أجل الآخرين أداءً لحق العلم!
- وهناك فئة موهبتها في العطاء والتضحية، فالموظف الذي يستمتع بمساعدة زملاءه الموظفين حتى ولو على حساب نفسه، فذاك لا أسميه «إحراقا للنفس» بل هو بذل وعطاء، وكذلك الإداري المحنك المضحي بجل وقته للعمل، وأيضا العالم المدمن لتخصصه وأبحاثه، والفقيه الذي ينشر العلم في كل أوقاته، وغيرهم من الأمثلة الكثيرة يؤدون مهام متعددة للمجتمع لا بد فيها من التضحية وإحراق الذات.
- والمتأمل يجد أنه لا يمكن لأي انسان أن يبدع ويتميز في أي المجال إلا وسوف تتأثر حياته في جانب من جوانبها قد تكون الأسرية أو الاجتماعية أو العلاقات الخاصة، والواقع يخبرنا أن العمل الشاق والتعب والتضحية هو الطريق الصحيح في بناء أي مؤسسة أو شركة أو مجتمع، وليس هو إحراق للنفس أبدا، يقول فيكتور هوجو الروائي والشاعر الفرنسي الشهير «صاحب رواية البؤساء» في كتابه «أوراق من حياتي»: «غير نافع وذو شعبية أم غير شعبي ونافع؟ خياري سأختاره سريعا، أعاني، ولكني أنفع الناس»، وبيت القصيد كلمة «أعاني». ويكفينا قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث «الحسن لغيره»: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس»، فكيف إذا كان النفع للوالدين، أو الأسرة والأبناء، أو الأقرباء؟!.
- وبناء على ما أسلفت، اقترح أن نستبدل كلمة «لا تحرق نفسك من أجل الآخرين» بكلمة «التضحيات» وهي لاشك درجات. ويكفي الأنصار فخرا قول الله -سبحانه وتعالى- عنهم: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ»، وأعتقد جملة «لا تحترق نفسك من أجل الآخرين» جاءت إلينا من الأدبيات الغربية لأنها مبينة على المنفعة الشخصية «البرغماتية» والفردانية، بينما المجتمعات الشرقية هي معتادة على الكرم والبذل والعطاء حتى عند ضيق ذات اليد.
الخلاصة: إذا كنت تعمل من أجل ترك أثر بعد الرحيل، فسوف تُحرق نفسك من أجل الآخرين، شئت ذلك أم أبيت!
@abdullaghannam