سعود القصيبي


يجهل الكثيرون بسبب قلة تسليط الضوء، العلاقة ما بين حضارات بلاد الرافدين والمنطقة الشرقية، وعلى الدوام عندما نتحدث عن تلك الحضارات البائدة ببلاد الرافدين يشار إلى الكشوفات الأثرية بدومة الجندل عن تواجد بعض الملوك بها بفترة تاريخية، وربما بأسباب اهتمامات الباحثين الأثريين المختلفة أو بأسباب قلة التنقيبات الأثرية، لم تحظى الدراسات التاريخية عن تلك العلاقة بالعناية والدراسة، وحتى في جامعاتنا المحلية تدرس مواد التاريخ المختلفة إلا أنها لا تبرز تلك الروابط ولا تتحدث عنها وكأننا كنا بمعزل عنها، أو من أنها تأثرت بنا وتأثرنا بها، فعلي سبيل المثال هناك الكثير من المصطلحات العربية باللغة الاكدية أو ربما هو العكس كما أشار له أحد كبار علماء حضارة الرافدين، فتستطيع اليوم ومن خلال قراءة النصوص السومرية أن نعي معاني تلك الكلمات دون الحاجة إلى قواميس لغة متخصصة لفهمها.
لا شك في أن لمملكة البحرين دورا كبيرا وفضلا والسبق في إظهار تلك الحضارة والمسماة ديلمون من خلال ما عثروا عليه من مكتشفات لمواقع أثرية ومدافن ركامية. وكانت دلمون جزءا من تاريخ التفاعلات بين الحضارات القديمة في منطقة الخليج العربي وبلاد ما بين النهرين، كما كانت تُعرف في النصوص السومرية كمركز تجاري مهم وموقع ذي أهمية دينية وثقافية، وكانت دلمون نقطة مهمة في شبكات التجارة القديمة التي تربط بلاد ما بين النهرين بمناطق الخليج وحتى وادي الهند، وتشير السجلات الأثرية والنصوص السومرية إلى تبادل السلع مثل النحاس والأحجار شبه الكريمة واللؤلؤ والعاج والأخشاب والتوابل والفخار بين سومر ودلمون.
ودلمون مذكورة في الأساطير السومرية كأرض مقدسة مرتبطة بقصص الخلق والطوفان كما مع نبي الله نوح - عليه السلام - من حيث رسو السفينة وسكناه فيها بعدها، مما يعكس عمق العلاقات الثقافية والروحية بين الحضارتين، كما أيضا تعتبر ديلمون في النصوص السومرية كمكان للخلود ومقر إله الماء إنكي، وتظهر الأساطير السومرية أن ديلمون كانت أيضا مكانا طاهرا ومنزلا للآلهة، مما يعزز فكرة الأهمية الروحية لدلمون في الوعي السومري.
ولكن أين هي ديلمون؟ ديلمون غالباً ما يحدد موقعها في المنطقة التي تضم البحرين وأجزاء من الساحل الشرقي للسعودية، كما أن الاكتشافات الأثرية في البحرين والتي تُعتبر جزءًا من ديلمون القديمة، تظهر وجود علاقات مستمرة مع سومر، فقد تم العثور بالبحرين على أختام سومرية وفخار وأدوات مماثلة لتلك الموجودة في بلاد ما بين النهرين، ويوجد بمملكة البحرين عدد من المواقع الدلمونية في أحدها عثر على أكثر من ثلاثة ألف مدفن، ويمكن القول بما عثر عليه من مدافن ركامية بالمنطقة الشرقية وبناء قديم لآثار تعود لتلك الفترة، أن دلمون بالإضافة للبحرين تحديدا ضمت تاروت والظهران والأحساء، فكلها جمعا ديلمون والتي أشارت لها الألواح والملاحم السومرية.
وعن ديلمون تحدثت في مقال سابق عن تاروت بإيجاز والتي هي الأخرى عثر فيها على تماثيل وأختام وقطع فخار تعود للفترة الدلمونية، أما عن الظهران فقد اكتشف بها عدد كبير من المدافن الركامية الدلمونية، ورغم إزالة أعداد كبيرة منها أثناء عمليات إنشاء مطار الظهران الدولي وتوسع شركة أرامكو والأعمال اللاحقة في المناطق الأثرية من امتداد عمراني وآخر، فقد أفادت التقارير العملية الأثرية عن وجود لا يقل عن أكثر من ألف وخمسمائة مدفن عند الإحصاء الأول.
وعدت مدافن جنوب الظهران من قبل الباحثين في فترة الكشف على أنها أهم موقع أثري في منطقة الخليج العربي يعود لتلك الفترة بما حوى من تلال ركامية ومبان، وفي الأحساء أشار الدكتور علي المغنم بكتابة جواثى ومسجدها عن حفرية قام بها لأحد المدافن الركامية بالثمانينيات الميلادية بالأحساء مؤرخا إياها أنها تعود للفترة الدلمونية، تلك المدافن التي تحدث عنها مثيلاتها بواحة الأحساء بالمئات مما شاهدنا إن لم تكن بالآلاف في عدد من المواقع الأخرى والتي أشارت لها التقارير الأثرية.
ونتمنى ذات يوم أن نشاهد تنقيبات أثرية بتلك المناطق السومرية الدلمونية بالمنطقة الشرقية لتشكل مع مثيلاتها بالمنطقة من آثار عوامل جذب سياحي يضيف للناتج القومي ويثري الحراك الثقافي.
@SaudAlgosaibi