محمد الحرز


لا يمكن الحديث عن أفكار شخصية معاصرة ، عاشت – على سبيل المثال - خلال القرن الماضي، وكانت مؤثرة في محيطها الثقافي الفكري أو الأدبي، وتحليل منبع هذه الأفكار وتفسير الغايات والأهداف التي تكمن خلفها، وموقعها ضمن عالم الأفكار المتداولة في حياته، وفي حياة مجايليه، دون وضعها في سياقها التاريخي.
وهذا الشرط يعني دراسة الأحوال قبل الأفكار، ومن ثَمّ ربط الثاني بالأول وفق حركة الواقع وتنامي أحداثه.
فالمفكر أو الأديب أو الشاعر الذي عاصر حرب 67م وعايش أبعاد الشعور بالهزيمة التي وقعت كالصاعقة على جميع رؤوس العرب على مختلف مجالاتهم، لا بد أنه تأثر بمثل هذا الحدث المفصلي بطريقة أو بأخرى، وبالتالي نجد نوعية الأسئلة التي يطرحها على نفسه المفكر أو المبدع بعد الحدث أصبحت مختلفة عما قبلها.
فسؤال النهضة الذي هيمن فترة من الزمن على ذهنية المفكرين والمبدعين والمصلحين والسياسيين العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين بحيث توالت على الإجابة عنه أجيال متعاقبة، لكن بعد حدث الهزيمة تحول السؤال من النهضة إلى سؤال الهزيمة وبدأت تتوالى الإجابات والاجتهادات والدراسات، ومضى الجميع ينقب عن أسباب الهزيمة حسب موقعه والمجال الذي ينتمي إليه: المجال الفكري أو الديني أو السياسي أو الأدبي، بحيث لو رجع الباحث إلى أرشيف تلك الفترة، لتعجب من كثرة الدراسات والاقتراحات التي طالت كل شيء في الحياة العربية، والأعجب أنه سيخرج بانطباع يتصل بتناقض تلك الدراسات في مقترحاتها للخروج من تلك الأزمة.
ولا أريد المضي قدما في تبيان هذه الحالة، وإلاّ هناك عندي عديد الأسماء من مفكرين ومثقفين وشعراء احتل الحدث مساحة كبيرة من تفكيرهم وأثر على نظرتهم للثقافة والتاريخ والأمة والدين والسياسة والشعر والأدب، وهناك مشاريع كالجابري وعبدالله العروي كان هاجس أزمة الخروج من الهزيمة وتداعياتها هو الأساس في البناء المعماري الذي قامت عليه مشاريع هذين المفكرين الكبيرين، رغم الاختلاف والتباين في النظر والتحليل عند كليهما.
لكن ما أردته على العموم هو الوقوف على الارتباط الوثيق بين تداعيات أي حدث مهم ومؤثر على طريقة التفكير وتحولاتها عند هذا أو ذاك، لذلك لا يمكن فهم تلك المشاريع المتعلقة بسؤال الأزمة فهما كاملا إلا بالرجوع إلى الحدث نفسه، والوقوف على أدق تفاصيله التاريخية.
ومثل هذا الشرط يصعب تحقيقه أو يحتاج إلى مجهود بحثي كبير كلما تعمقنا أكثر في التاريخ، فمثلا يجيب المفكر فهمي جدعان عن سؤال: ما الذي حدا بالمعتزلة لأن يكونوا عقلانيين ؟ بأنهم لم يكونوا أمام خيار حتى يكونوا عقلانيين، بل أنهم أمام ظرف تاريخي أجبرهم على استخدام «سلاح العقل» ضد النزعة العرفانية التي تعاظم شأنها في القرن الثاني الهجري من جهة، وضد الذين يهاجمون الإسلام بأسلحة المنطق اليوناني من جهة أخرى.
وهو يستنتج بالتالي أن العقل «لم يكن مطلوبا لذاته بإطلاق» وإنما حكم اللجوء إليه هو الظرفُ التاريخي، ودليله هو التراجع عن العقل عندما تبدلت الأحوال والظروف، وكما يسري على العقل كما يؤكد فإنه يسري على بقية القيم المؤسسة للإسلام كالعدل، حول هذه المسألة يمكن الرجوع إلى آخر كتب فهمي جدعان «معنى الأشياء».. لذلك تكمن أهمية التاريخ في أحداثه المتداخلة وتفاصيله الدقيقة التي تدخل في نسيج صناعة الأفكار، وقد يحيل البعض هذا التداخل كما في الخطاب الفلسفي ضمن جدلية الفكر والواقع، لكن المسألة أكثر تعقيدا من ذلك، فتشظي المعرفة والحياة في عصر ما بعد الحداثة التي نعيشها الآن خلق استيهامات للواقع وللمعرفة معا بحيث يصعب معها التفريق بين الواقع واللاواقع والمعرفة واللامعرفة.
نحن تكلمنا إلى الآن عن وجه واحد للمسألة، ولم نتطرق إلى الحياة الشخصية للمفكر أو المبدع، والتي يظهر الوقوف على تفاصيلها الكشف عن العلاقة الوثيقة بين أفكاره وتحولات حياته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وحتى مواقفه السياسية إن وجدت، لكن ربما في مقال آخر.
@MohammedAlHerz3