محمد الحرز


هناك سلوك ثقافي منتشر يصدر عن الذين يضعون حدودا فاصلة في تصانيفهم بين الحداثيين والتقليديين، وكأن المسألة من البديهيات في أذهانهم، أو يضعون معايير ثابتة من القيم العليا يقيسون بها موضع الأفراد، حسب قربهم من الحداثة أو التقليد أو بعدهم عنها، مهما كان مجال هذا الفرد مثقفا أو مبدعا أو مفكرا، حتى بدت كلمة «حداثة» و«تقليد» من فرط استعمالهما غريبتان عن نفسهما وعن معانيهما التي تأسست عليهما.
هؤلاء، على سبيل المثال، إذا ما قصدنا من كلامنا بين ما هو محلي وما هو عربي، إمّا يربطون حداثة المرء بالنص الشعري الذي يكتبه باعتباره نصا يحمل سمات عامة للحداثة، بغض النظر عن قيمته الفنية. فيقولون عنه شاعرا حداثيا، وبالمقابل كل نص لا يلتزم بهذه السمات يطلق على صاحبه شاعرا تقليديا، وكأن منطق الثنائيات يحكم تفكيرهم. وإمّا يربطونها «أي الحداثة» إذا كان مجال المرء ناقدا بالمعنى الأدبي أو الاجتماعي أو كان مثقفا أو مفكرا بالدراسات والمقالات أو الأطروحات الأكاديمية التي تتسم بالتوجه الفكري الحداثي على مستوى المنهج والموضوع، فيطلقون بالتالي على هذا الكاتب أو ذاك بالكاتب الحداثي، بالمقابل كل كاتب تقليدي عندهم هو الملتزم فكرا ومنهجا بالقيم الموروثة.
والسؤال الذي يعترضنا هنا: ما طبيعة الإشكال الذي ينتج من خلال هذا السلوك من وجهة نظرنا؟
إذا كانت القيم المحورية المؤسسة للحداثة، كما هي متفق عليها، العقلانية والفردانية والمنطق العلمي، لا يختلف على الإيمان بها اثنان، ممن يسمون بالحداثيين، فالأمر إلى هنا لا إشكال فيه، لكن مدار الإشكال لا يكمن في التمسك نظريا بهذه القيم وغيرها من قيم الحداثة، إنما في التطبيق العملي الذي هو مدار الواقع، غير أن المسألة ليست بهذه السهولة التي نتصورها، فلا يمكن نزع صفة الحداثة عن الشخص لمجرد أن واقعه لا يطابق مقولاته وقناعاته، هناك واقع موضوعي لا يمكن إغفاله.
لذا، قد يتساءل القارئ، لماذا طرحنا الإشكال بالأساس؟ طرحناه كي نصل إلى نتيجة مفادها: أن الكثيرين لا يدركون أن واقعهم لا ينتج شروط قناعاتهم، فالذي يؤمن بالمنطق العقلي لا يستطيع أن يمارسه علنا في حياته ضد منطق الخرافة داخل مجتمعه حتى لاتتأثر حياته ولا علاقاته الاجتماعية، فتبدأ تتسلل إلى خطابه مقولات تبريرية هروبا من استحقاقات العقلانية. كذلك من يؤمن بالحرية الفردية كعنوان ينتمي به للحداثة، فإن الواقع الذي يعيشه مشحون بالعصبيات التي تنتجها القبيلة والطائفة. أيضا الشاعر الذي يجعل من نصه الحداثي عنوانا على تمرده في انتسابه للحداثة الشعرية، لكن واقع أمره أنه يعيش حياة رتيبة ونمطية حاله حال الفلاح الذي يذهب من بيته للحقل ومن الحقل إلى البيت.
المدن «الأوروبية» التي ترعرعت في فضائها قيم الحداثة وترسخت ونمت، لا يمكن لها أن تستنسخ في مناطق أخرى من العالم؛ حتى تتحقق شروط الحداثة الموضوعية، هذا أمر محال، لكنّ الوعي الشقي الذي جعل من كلمة الحداثة لا تنفك ترتبط بالتقليد في ثقافتنا باعتبارهما كلمتين متنافرتين هو العلاقة الملتبسة بالوجه الآخر للغرب الاستعماري، وإلاّ ثمة نماذج فكرية عربية كبيرة، يصعب إذا ما تصفحنا سيرهم الذاتية أن نضع أيدينا على موقع التقليد في حياتهم أو موقع الحداثة منها، طه حسين الذي درس في الأزهر، جواد علي الذي درس في كلية أبي حنيفة. والكثير من هذه النماذج ممن حفظ القرآن الكريم في صغره.
خلاصة القول.. بحكم غياب هذه الشروط الموضوعية، لا يوجد حداثيين لا شعراء ولا مفكرين ولا نقاد على الأقل في مشهدنا المحلي. ما نحتاجه حقا مصطلح آخر يمكن أن نقارب من خلاله سير الشعراء والنقاد والمثقفين.
@MohammedAlHerz3