د. سعود العماري

في قرار تاريخي، يمثل نقطة تحوّلٍ جوهريةً في إيضاح وتأكيد وتصويب الموقف القانوني تجاه القضية الفلسطينية، أصدرت محكمة العدل الدولية، في 19 يوليو 2024م، رأيًا قانونيًا استشارياً يؤكد عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ويدعو إسرائيل إلى إنهاء احتلالها فورًا، ودفع تعويضات عن 57 عامًا من الاحتلال.

جاء هذا الرأي بناءً على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجّهته إلى المحكمة في شهر ديسمبر من عام 2022م، للحصول على رأي استشاري حول العواقب القانونية الناشئة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

انعقدت جلسات الاستماع في فبراير 2024م، حيث استمعت المحكمة إلى مرافعاتٍ من 52 دولةً، وثلاث منظمات دولية، وهو الأمر الذي جسّد عمق وحجم الاهتمام الدولي الكبير بهذه القضية.

وقد أكدت غالبية هذه الدول أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، الذي طال أمده، يشكل تهديدًا كبيرًا لاستقرار الشرق الأوسط، وبالتالي يجب أن ينتهي فورًا، بينما عارضت الولايات المتحدة هذا الرأي، مشيرة إلى ضرورة أخذ الاحتياجات الأمنية لإسرائيل في الاعتبار!

محكمة العدل الدولية

وخلُصت محكمة العدل الدولية، بدايةً، إلى أنها تتمتع بالولاية القضائية التي تُتيح لها تقديم الرأي الاستشاري المطلوب، ورفضت جميع الحجج التي قُدّمت لإثبات عدم اختصاصها ومنعها من ممارسة ولايتها القضائية.

وأكدت المحكمة أن سياسات الاستيطان الإسرائيلية، ونقل المدنيين الإسرائيليين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، تنتهك بوضوح القانون الدولي، بما في ذلك المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.

كما أكدت المحكمة أن سياسات إسرائيل وممارساتها، في القدس الشرقية والضفة الغربية، تصل إلى مستوى جريمة ضم الأراضي بحكم الأمر الواقع، الأمر الذي ينتهك الحظر المفروض على حيازة الأراضي بالقوة.

قانون حقوق الإنسان

كما بيّنت المحكمة أن التدابير التمييزية التي اتخذتها، ولا تزال تتخذها إسرائيل، مثل سياسات تصاريح الإقامة، والقيود المفروضة على الحركة، وهدم الممتلكات، هي، في الواقع وفي القانون، إجراءات تنتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتعرقل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

ودعت المحكمة إسرائيل إلى إنهاء احتلالها غير القانوني فورًا، ووقف جميع أنشطة الاستيطان الجديدة، وإخلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما طالبت بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين عن الأضرار التي لحقت بهم جراء الاحتلال.

وأكّدت المحكمة أنه يتوجب على جميع الدول الامتناع عن الاعتراف بالوضع غير القانوني الناتج عن سياسات إسرائيل، وعدم تقديم أي دعم من شأنه أن يُسهم في استمرار الوضع القائم.

وقررت المحكمة أنه يجب على الأمم المتحدة، بما في ذلك جمعيتها العامة ومجلس الأمن، عدم الاعتراف بالوضع غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعمل على إنهاء وجود إسرائيل غير القانوني في هذه الأراضي بأسرع وقت ممكن.

ضمان حقوق الفلسطينيين

هذا الرأي القانوني، من محكمة العدل الدولية، يعد انتصارًا مهمًا للعدالة والحقّ أولاً، وللقانون الدولي كواحدٍ من أهم أدوات الوصول إلى العدالة وإحقاق الحق، كما أنه يخلق سابقة مهمة يمكن، بل يجب على جميع الدول والمنظمات الدولية اتباعها، ويُشكل خطوة نحو تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني الذي عانى من الاحتلال والتمييز والقهر لفترة طويلة.

ويُعدّ هذا الحكم تأكيدًا على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وحقوقهم الإنسانية، ورسالة واضحةً، إلى إسرائيل والعالم، تؤكّد وجوب احترام القانون الدولي وحقوق الشعوب في أن تعيش في حريةٍ وسلام، وتعلنها صراحةً أنه لن يتم التسامح أو التغافل عن الاحتلال والتمييز والجرائم التي تُرتكب في ظلهما. ولهذا يجب أن يكون هذا الحكم دافعًا للمجتمع الدولي للعمل، بجدية، نحو إنهاء الاحتلال وضمان حقوق الفلسطينيين.

قبل إصدار الرأي القانوني، في 19 يوليو 2024، قامت دولٌ عدة بتقديم قائمةٍ طويلةٍ من الحقائق والوقائع والأدلة، حول قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، إلى محكمة العدل الدولية.

فبالإضافة إلى دولة فلسطين، قدمت دولٌ أخرى مداخلات وأدلة كان منها؛ إسبانيا، وبلجيكا، وجنوب إفريقيا، وكوبا، والجزائر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، كما شاركت ثلاث منظمات دولية هي: جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي في المرافعات المتعلقة بهذه القضية.

سياسة الاستيطان واستغلال الموارد

وهكذا، بات هذا الرأي الاستشاري، الآن، حقيقة قانونية لا يمكن دحضها، بل ستترتب عليه آثار قانونية، فقد نظرت المحكمة في مسألة استغلال الموارد الطبيعية في الأراضي المحتلة، مشيرة إلى أن إسرائيل، بموجب المادة 55 من لوائح لاهاي، هي بحكم الاحتلال في موقع مدير مؤقت للموارد، وأن استغلالها لهذه الموارد الطبيعية يجب أن يكون لصالح السكان المحليين، وبطريقة مستدامة.

وفي هذا الخصوص، خلصت المحكمة إلى أن سياسات إسرائيل في استغلال الموارد تتعارض مع هذه المبادئ، الأمر الذي يؤثر سلبًا في الحقوق الفلسطينية في الموارد الطبيعية لأرضهم.

كما تطرقت المحكمة، أيضًا، إلى التشريعات والتدابير، التي اعتمدتها إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين، عادّةً إياها ذات صفةٍ وطبيعةٍ تمييزية، تستهدف فرض القانون الإسرائيلي على الأراضي المحتلة بشكل غير قانوني، الأمر الذي يُسهم في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي، ويُعزز السيطرة على الأراضي المحتلة ويحرم الفلسطينيين من أبسط حقوقهم.

وأكدت المحكمة أن السياسات والممارسات الإسرائيلية، في الأرض الفلسطينية المحتلة، تتعارض، بشكل صارخ، مع القانون الدولي، وأن الاحتلال الذي استمر لعقودٍ طويلة، وسياسة الاستيطان، واستغلال الموارد الطبيعية، والتشريعات التمييزية، جميعها، تشكل انتهاكات لحقوق الفلسطينيين وتعيق حقهم في تقرير المصير.

أطول احتلال في التاريخ

وأشارت المحكمة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، منذ عام 1967م، يعد أطول احتلال عسكري في التاريخ الحديث، مؤكدةً أن طول مدة الاحتلال لا يغير من طبيعته القانونية كحالٍ مؤقتة.

وأكدت المحكمة أن استمرار الاحتلال لفترة طويلة يتعارض مع العديد من مواد القانون الدولي، خاصة ما يتعلق منها بحظر استخدام القوة، وحق الشعوب في تقرير المصير.

وتطرقت إلى سياسة الاستيطان الإسرائيلية، معتبرةً إياها انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وتحديدًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر نقل السكان المدنيين من دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة.

وفي السياق نفسه، أوضحت المحكمة أن بناء المستوطنات، في الضفة الغربية والقدس الشرقية، يهدف إلى تغيير التركيبة السكانية للمنطقة، كما يستهدف تهجير السكان الفلسطينيين بشكل قسري.

تقرير المصير الفلسطيني

الجدير بالذكر أن الرأي الاستشاري، الذي صدر عن محكمة العدل الدولية، في 19 يوليو 2024م، أثار مجموعة متنوعة من ردود الفعل، من الخبراء والدول، كان كثير منها إيجابياً للغاية، وخاصة من أولئك الذين يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، إذ تنظر معظم الدول، وكثير من الخبراء القانونيين، إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية على أنه خطوة حاسمة نحو الاعتراف بالظلم الطويل الأمد الذي يواجهه الفلسطينيون، ويُمهد الطريق نحو التصدي له، وقد صدرت عن عديدٍ منهم دعوات إلى اتخاذ إجراءات دولية فورية لإنهاء الاحتلال غير القانوني ودعم تقرير المصير الفلسطيني.

وفي هذا الإطار، عبر الفلسطينيون عن امتنانهم لاعتراف محكمة العدل الدولية بالجرائم التي يتعرضون لها تحت الاحتلال الإسرائيلي، وإنكار حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وفرض التمييز والفصل العنصري على الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة.

كما أشادت منظمة العفو الدولية برأي محكمة العدل الدولية معتبرةً إياه دفاعا تاريخيا عن الحقوق الفلسطينية، ومؤكدة أن النتائج التي خلصت إليها المحكمة تؤكد عدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي وسياساته التمييزية، التي تصل إلى مستوى الفصل والتمييز العنصري.

منظمة العفو الدولية

وقد سلّطت إريكا غيفارا روساس؛ من منظمة العفو الدولية، الضوء على الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي تحملّها الفلسطينيون، والتي شملت هدم المنازل، ومصادرة الأراضي، والقيود الصارمة المفروضة على الحركة وعلى الوصول إلى الموارد الأساس.

كما أثنت منظمة هيومن رايتس ووتش على الرأي الاستشاري للمحكمة، مشيرة إلى إمكان تأثيره بشكل كبير في القانون الدولي.

وشددت على أن النتائج، التي وصلت إليها محكمة العدل الدولية، تعزز عدم شرعية الاحتلال، ويمكن أن تصبح جزءا من القانون الدولي العرفي، ويكون لها، بالتالي، سلطة أخلاقية وقانونية كبيرة.

وذكرت المنظمة أن هذا الرأي يمكن أن يكون بمثابة خارطة طريق للدول التي تهدف إلى حماية حقوق الإنسان، ومعالجة حالات الإفلات من العقاب الطويل الأمد، فيما يتعلق بالانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين.

الحل القانوني أو السياسي

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن صدور هذا الرأي، ووجود قرارات أخرى صادرةٍ عن الأمم المتحدة، بهيئتيها؛ الجمعية العامة ومجلس الأمن، صدرت في بعض الأحيان بتأييد جميع الأعضاء، منذ عقودٍ طويلة، يؤكد أن المشكلة ليست قانونية صرفاً، وإنما هي، كذلك سياسية وعسكرية.

كما أن الجانب الآخر من المشكلة، الذي يزيدها تعقيداً، يكمن في أن إسرائيل تتعنت في قبول الحلول السلمية والسياسية، وأن بعض الدول في المنطقة، وخارجها، تفضل الحلول العسكرية، لإطالة أمد النزاع، واستخدامه كوسيلة لتحقيق مصالحها الخاصة، وبالتالي يُصبح الحل القانوني أو السياسي غير ممكن في الوقت الراهن.

لكنني، كقانوني، أرى أن هذا الرأي الاستشاري يمثل تحولًا جذريًا في الموقف الدولي، وتأكيدًا كتابيًا قانونيًا لحق الفلسطينيين في الحصول على مطالبهم المشروعة.

ولهذا فإنني أعد الرأي القانوني لمحكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية إنجازًا تاريخيًا يستحق الإشادة، ويجب على المجتمع الدولي أن يستغل هذا الحكم لتعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق العدالة والسلام في الشرق الأوسط.

كما أن التزام الدول بتنفيذ هذا الحكم سيُسهم، بشكل كبير، في تعزيز سيادة القانون، وحماية حقوق الإنسان، ويعطي الأمل للشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم في أن العدالة يمكن، في يومٍ ما، أن تتحقق.