لم ألتقيه إلاّ من خلال حكايات كتبه، والتي في أغلبها كانت على شكل وصايا يخاطب فيها أهل مدينته، لم ألتقيه لكنني واحدا من سلالته، فهو عاش في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وامتد به العمر إلى حدود منتصف القرن العشرين.
يروي في كتبه أنه عاش حياة التنقل والترحال، وبسبب طبيعة مهنة التجارة التي مارسها منذ الصغر، فقد خبر الناس كما يقول في سيرته، وعرف مواضع الألفة في قلوبهم، ومواضع النفور، عاشر الصغير والكبير، كان يقول: أن أول دخولي يكون إلى السوق العام إذا جئت إلى أي مدينة.
يذكر في أحد كتبه أنه لم يستقر في الأحساء إلا عندما ذرّف عمره على الستين، حيث اتّخذ له منزلا منزويا في إحدى أحياء الأحساء قرب إحدى مساجدها المعروفة. وظل وحيداً بعد أن ترك زوجته وأولاده عند صهره في إحدى القرى الواقعة على سواحل الخليج.
عندما أنهيت قراءة كتبه، خرجت بانطباع أشبه ما يكون بأني وقعت على كنز ثمين، وجدته بالصدفة، فقد كنت في زيارة إلى مكتبة الأسكندرية، وكنت حينها أبحث عن أسماء أعلام من علماء ورحالة ومؤرخين يرتبط نسبهم إلى بعض المدن المشهورة، ولم أتصور أن عيني ستقع على كتاب «وصايا أبي الفتوح الأحسائي» الذي لا تتجاوز صفحاته الخمسين من القطع المتوسط، وحينما استفسرت عنه أرشدوني إلى بقية كتبه.
بالنسبة لي كانت مفاجأة مذهلة حين قرأت سيرته، فهو رجل عاصر حربين عالميتين، تنقل في أغلب مدن المشرق العربي، قارئ نهم للتاريخ، استشهاداته والقصص التي يرويها تشير إلى عقليته ومنطقه الذي هو أقرب إلى المؤخرين منه إلى فقيه أو عالم دين كما تعودنا أن نرى في تاريخنا الأحسائي القريب، لقد وضع خلاصة تجارب حياته في هذه الوصايا التي قال عنها مؤنة طالب الحق في دنياه وآخرته. لقد كتب وصاياه في أواخر حياته وهو في وحدته، في ذلك البيت المنعزل، كان يذكر أنه لا يقوم عن قرطاسه وقلمه إلا وقت الفرائض ووقت الأكل.
كان أسلوبه في الكتابة ينتمي إلى أسلوب الحكائين التراثيين الذين يهتمون كثيرا بالتأثير على قرائهم. والغريب في الأمر الذي جعلني في حيرة، كيف له هذا الاهتمام بمخاطبة قراء، وهو من خلال قراءتي له لم ألحظ أنه ذكر شخصا واحدا من القريبين منه، وحين أتأمل وصاياه «سأفرد لها مقالا منفصلا» أجد أن ثمة قارئا يتوجه إليه في وصاياه، قارئا عايشه وعرف طبيعة الحياة التي يعيشها، أكان ذلك على مستوى علاقاته الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية في عادته وتقاليده.
وكأنني أشاهد عيناً تبصر وتسجل ما تراه وتعيد توثيقه من خلال ما يقوم به من ملاحظة ونظر بالكتابة، فعندما يقول على سبيل المثال تحت عنوان الوصايا العشرون: أعلم يا هداك الله، أني طوفت في بلاد الله كثيراً، فلم أزل أنشد المحبة بين الناس على الحقيقة، لقد وجدتها في نهاية الأمر، في تلك العادات البسيطة التي ألحظها هنا حين أعبر هذا الحي الذي أسكنه: السلام بين صاحبين وكأنه سلام الملائكة، طرقات بابك الذي يأتيك من جارك وفي يديه سلة من طعام، ويقولك لك هذه بركة اليوم، شبان من الحي مفتولي العضلات يمرون كل مساء على بيوت الحي، ويطمئنون على سلامة أهله، لقد أدركت ذلك يا بني بعد عمر قضيته وأنا أبحث عنه بعيدا وهو في جواري، عش قرب حياتك حتى تكشف معنى الحب.
هذا المعنى العميق للمحبة، يحتاج منا إلى نظر وتأمل ولا يتم إلا إذا سلطنا الضوء على تلك الحقبة للمجتمع الأحسائي.
@MohammedAlHerz3