الحركة الدائمة للمجتمعات في سبيل أن تنمي نفسها وتطور من نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي، وفي سبيل تجديد قيمها الروحية والتربويّة وفق هذا التطور، هي الحركة التي تحدث أمام أنظارنا وأمام أسماعنا للمجتمعات الغربية على وجه الخصوص.
وسأضع أمام القارئ مثالين، ثم أناقش بعدها ما يترتب على مثل هذا الطرح الذي دائما ما يقفز في ذهن القارئ حول علاقتنا نحن العرب بالغرب على وجه الخصوص.
إن ردود الأفعال التي قام بها الكثير من الأفراد والجماعات والمؤسسات في المجتمع الغربي ضد الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الآلة الإسرائلية المتوحشة لأهل غزة، سواء عبر المؤسسات البرلمانية أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر تظاهرات الطلاب والطلبة في جامعاتهم، هذه الردود دليل على مظهرين اثنين، لا تجد لهما مثيلا إلا في المجتمعات الأوروبية، أولهما قيمة الحرية في التعبير عن الرأي لدى الفرد من جهة ولدى الجماعات من جهة أخرى، والإحساس بها كسلوك متوارث تاريخيا، وحق مكتسب لا يمكن التفريط به.
ثاني المظهرين يشير إلى أن ثمة أزمة متفاقمة يعيشها اليسار الأوروبي من جهة مع أزمة النيوليبرالية التي طغت قيمها على الفضاء العام الاجتماعي والديني ناهيك عن الاقتصادي من جهة أخرى.
كلا المظهرين دليل على حيوية هذه المجتمعات، وإذا ما أخذنا بمفهوم هيغل عن المجتمعات التي لها تاريخ مؤثر من خلال مظاهر الحركة السالبة والحركة الموجبة، فإن المثال الذي أمامنا يجسده ويعبّر عنه بأجلى صوره.
المثال الآخر هو حالة الجدل التي أثارها مؤخرا حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي تستضيفها العاصمة الفرنسية باريس بعدما حاكى راقصون لوحة العشاء الأخير للفنان ليوناردو دافنشي ما أثار حفيظة اليمين الفرنسي والكنائس المسيحية حول العالم بحكم موقع اللوحة وقدسيتها سواء في تاريخ الفن أو في تاريخ المسيحية، وكأن هذه المحاكاة الساخرة اعتبرها اليمين المحافظ إهانة للفن وللمسيح، ولا يمكن الصمت حيالها، فقد رأينا الطوفان الكبير الذي خرج في مظاهرة كبيرة للتنديد بهذا العرض.
إن المتابع لمثل هذه المظاهر في المجتمع الأوروبي يخرج بنتيجة لا يمكن التغافل عنها، هي أن أزمة النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي هي أزمة تولد من داخل النظام نفسه، ومن تطبيقاته على أرض الواقع ومن خلال قوانين ودساتير تمثّل منهجا وسلوكا، فالتنازع حول الحرية في الفضاء العام هو ما يدور حوله من نقاش في البرلمانات والساحات العامة وفضاءات التواصل الاجتماعي معتمدين في نقاشاتهم على حوادث ونصوص دستورية وقوانين مطبقة.
لذلك، لن تجد نظاما آخر، تتم مناقشة أزماته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفق الحوار الذي يكفله القانون إلا في المجتمعات الأوروبية.
هنا يمكن أن يقفز في ذهن الكثيرين السؤال التالي كلما كان الحديث يدور عن حيوية المجتمعات الأوروبية: أنت تلمع صورة الغرب متناسيا الوجه الآخر الخبيث له من استعمار ونهب شعوب العالم ومركزيته ونظرته الدونية للآخرين؟
لنكن صريحين أن العقدة التي لازمت نظرتنا للمجتمع الأوروبي لا زالت تختزله في تاريخ الاستعمار وإرثه الاستشراقي، بينما المجتمع نفسه له تاريخه النضالي الذي نتناساه؛ ولأن الإخفاقات المتلاحقة للمشاريع الإصلاحية منذ عصر النهضة إلى الآن نضعها دائما على عاتق الغرب.
لننظر الآن بعين البصيرة في أرجاء العالم العربي، وقل لي أي مشروع يمكن أن يلائم اللحظة الراهنة للدخول بالمجتمع في العالمية والتأثير في أفق الآخرين.. برأيي لا مشروع يؤسس لدولة معاصرة تضارع بقية الدول وتصنع لها مكانة سوى المشروع السعودي بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي أراه بصيص أمل يحقق من خلاله العرب شيئا من القوة والمكانة المنشودة.
@MohammedAlHerz3
ثمة أزمة متفاقمة يعيشها اليسار الأوروبي من جهة مع أزمة النيوليبرالية