يخرج بين الفينة والأخرى بعض من الشباب الذين يكملوا تعليمهم ونجحوا في عالم التجارة والأعمال، ليتحدثوا عن تجاربهم في بعض البرامج واللقاءات. ومنهم من قد يقلل من شأن التعليم أو الشهادات الجامعية. ولنا عدة وقفات مع مثل هذه المقابلات والحوارات وما شابهها.
أولا: هو أمر حسن أن يكون للإنسان طموح في مجال معين منذ صغره، ويعرف ما يريد منذ نشأته، ويكتمل النجاح حين تسنح له فرصة في الحياة، فيستفيد منها ليصبح ذو مال وتجارة وأعمال، ولكن هذه حالات لا يمكن تعميميها على الجميع لأنه ببساطة «كل ميسر لما خلق له».
ثانيا: ليس من المنطق أن يخرج شاب في مقتبل عمره «في العشرينيات أو الثلاثينيات»، ويقول لنا: خبرتي في الحياة كذا وكذا، لأنه ما زال في البدايات! فعن أي خبرة هو يتحدث؟ وهل خمس سنوات أو عشر سنوات في مجال التجارة تُسمى «خبرة»، وكافية لإسداء النصح للناس؟!
وليس المقصود من هذه المقال هو التثبيط عن العمل في التجارة، بل على العكس فقد جاء في الأثر: «تسعة أعشار الرزق في التجارة» ضعفه الألباني، ولكن المراد هو أن تطرح تجربتك القصيرة جدا!! وتدع الآخرين يتخذون القرار، وبدون التقليل من شأن الشهادة الجامعية أو المسلك الأكاديمي، لأن هذا يُعد معضلة كبيرة حيث أن نيوتن وآينشتاين وماري كوري وغيرهم كثير، قد اختاروا المسلك العلمي ونفعوا البشرية! فهل كانوا مخطئين لأنهم تعلموا وعلموا؟! كلا، ولكن المشكلة تكمن في التعميم أثناء الحديث، وعدم ترحي الدقة في الكلام.
النقطة الأخرى المهمة جدا، هي أن الحضارات كلها تقوم على أساس التعليم ثم التعليم ثم التعليم، أي أن المال وحده ودون علم وفكر لا يصنع لك اقتصاد، ولا يبني لك تنمية، ولا يجعل لك شعبا حضاريا مثقفا، ولذلك حين نتحدث إلى الجمهور لا بد من الموازنة بين العقل والعاطفة، وبين الكلام العام والخاص.
ومن ناحية منطقية، كم شخص ترك الدراسة والتعليم ونجح في مجال المال والأعمال؟ وفي المقابل كم شخص أهملها وفشل في توفير أبسط مقومات الحياة المادية؟ وحتى لا أعمم، فليس بين يدي إحصائية، ولكن أنظر حولك وتأمل عدد الذين تركوا الدراسة وأصبحوا «مليونيرية» أو «مليارديرية»؟ ستجد أنه يكاد لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين.
وإذا أردنا أن نتحدث بالعقل، ما الذي يمنع أن يتحصن الإنسان بالشهادة الجامعية وأن يكون تاجرا ناجحا في نفس الوقت؟! بل جرت العادة أن التاجر العصامي عنده همة ونشاط وعزيمة، أي يستطيع بسهولة أن يجمع بين الحُسنين «التجارة والشهادة الأكاديمية».
إن التعليم في وقتنا الحاضر والمستقبل صار من الضروريات حتى يتكامل ويتكاتف المجتمع في بناء منظومة حضارية، ونقول لأي ناجح في مجال معين، إنه من الإنصاف حين تتحدث عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أن تذكر المستمعين أنك نجحت في هذا المجال لأن لديك الميول والموهبة، واستغليت الفرصة المواتية، أما المستمع فقد ينجح في مجال آخر، فليس بالضرورة أننا كلنا نملك نفس موهبة والفرص. فشخص قد ينجح في مجال التجارة، وآخر في الإدارة أو الطب أو الهندسة، ولكن لا بد من التعليم حتى نمتلك الفكر، ونكتسب المهارات، ونتعلم الأساليب، ونعرف أساسيات العلم النظري والتقني، من أجل أن نخوض تجارب الحياة، وندخل سوق العمل ببصيرة لا بجهل وعنترية.
@abdullaghannam