د. محمد العرب


في عالم مليء بالتغيرات المستمرة والمتسارعة، تبقى القدرة على التكيف واحدة من أعظم أدوات الإنسان للنجاح والبقاء.
كيف نتمكن من التكيف مع تلك التحديات الجديدة التي لا تتوقف؟ لفهم هذه الأسئلة بعمق، يجب أن نستعرض مفاهيم التكيف، الاستيعاب، والانتباه المعرفي، مع استحضار أمثلة تاريخية ومعاصرة لتوضيح أهميتها، التكيف هو عملية حيوية تساعد الأفراد والمجتمعات على مواجهة التغيرات البيئية أو الفكرية، منذ فجر التاريخ، كانت قدرة البشر على التكيف هي التي مكنتهم من البقاء والتفوق. سواء كان ذلك التكيف مع بيئة جغرافية قاسية أو مع تقنيات حديثة تغير طبيعة الحياة، فإن الإنسان كان ولا يزال يمتلك القدرة على تعديل سلوكه ومعتقداته لاستيعاب الظروف الجديدة، العالم النفسي جان بياجيه قدم نظرية التطور المعرفي للأطفال التي تضم مفهوم التكيف، حيث يمكن للفرد أن يتكيف عبر عمليتي: الاستيعاب والتكيف، الاستيعاب يعني تعديل المعلومات الجديدة لتتناسب مع الأطر الفكرية القائمة، بينما يشير التكيف إلى تغيير الأطر الفكرية نفسها لتتناسب مع المعلومات الجديدة.
وها نحن اليوم نرى نفس الظاهرة تتكرر في عصر الثورة الرقمية، حيث أصبح التكيف مع التقدم التقني والتحولات الاجتماعية ضرورة قصوى. الاستيعاب هو قدرة العقل على فهم المعلومات الجديدة ودمجها مع المعرفة السابقة، في بيئة معرفية تزداد تعقيداً، يصبح الاستيعاب أداة حاسمة لاستمرار التعلم وتوسيع الآفاق، على سبيل المثال، عندما نتعلم لغة جديدة، نقوم بعملية استيعاب متواصلة، ندمج الكلمات الجديدة مع المفردات التي نعرفها بالفعل، ونربط القواعد الجديدة بتلك التي نستخدمها في لغتنا الأم، كلما زادت المعلومات التي نستوعبها، زادت قدرتنا على التفاعل مع العالم بطرق جديدة وأكثر تعقيدًا.
ومع تطور التكنولوجيا وزيادة تدفق المعلومات، بات الاستيعاب أكثر أهمية من أي وقت مضى، في الماضي، كانت المصادر المعرفية محدودة نسبيًا، لكن الآن، بوجود الإنترنت، أصبح لدينا إمكانية الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات، من دون الاستيعاب الفعال، قد نصبح أسرى لهذا التدفق الهائل. القدرة على الاستيعاب اليوم تميز الأفراد الذين يستطيعون التفاعل بذكاء مع متغيرات العصر عن أولئك الذين يكتفون بمشاهدة هذا التدفق دون فهم حقيقي أو تحليل، أما الانتباه المعرفي فهو القدرة على اختيار المعلومات ذات الصلة وسط الكم الكبير من المعلومات المتاحة.
في عالم مزدحم بالمحفزات، يكون الانتباه المعرفي بمثابة مرشح يحدد ما يجب التركيز عليه وما يجب تجاهله، على مر العصور، كان للانتباه المعرفي أهمية كبرى في حياة الإنسان. بالمجتمعات البدائية، كان الصيادون وجامعو الثمار يعتمدون على قدرتهم على الانتباه للأصوات والحركات في بيئتهم لتجنب المخاطر أو تحديد الفرص. اليوم، نواجه نوعاً جديداً من الفوضى وهي فوضى المعلومات، القدرة على التركيز والتمييز بين المهم وغير المهم أصبحت مهارة حيوية في عالمنا المعاصر.
أحد الأمثلة الواقعية التي تجمع بين هذه المفاهيم هو التحول الذي شهدته البشرية مع الهواتف الذكية، التكيف مع التكنولوجيا الجديدة تطلب استيعاباً لما تقدمه من إمكانيات، وانتباهًا للتغيرات التي جاءت معها. في البداية، واجه الكثيرون صعوبة في التكيف مع الهواتف الذكية، ولكن بمرور الوقت، أصبح استخدامها جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية.
ختاماً، التكيف والاستيعاب والانتباه المعرفي ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل هي أدوات تساعدنا على مواجهة التحديات المتزايدة في عالم دائم التغيير، بدونها قد نجد أنفسنا غير قادرين على مواكبة التغيرات أو التكيف مع الواقع الجديد، وفي هذا العصر الذي تتغير فيه التكنولوجيا والمعرفة بسرعة مذهلة، تُعد هذه الأدوات المفتاح للحفاظ على عقل متوازن قادر على مواجهة الفوضى بثقة وهدوء.
@malarab1