صحيفة اليوم

'رب اجعل هذا البلد آمنا'

عشية الثلاثاء 14 من محرم 1339 بينما كانت الشمس تلقي على المشرق نظرات الوداع رأى اهل جدة (على ساحل البحر الأحمر) شابين يبرحان مدينتهما ووجهتهما مكة.. احدهما مكتس برداءة فمضيا مستظهرين المدينة مستقبلين الجبال والرمال.. سأل المحرم رفيقه بعد ان ابتعدا عن جدة مسيرة نصف ساعة: ما اسم هذا الجبل الذي نراه أول جبال طريقنا؟ فقال: الرغامة. واستمرا في مسيرهما.. لم يجريا اكثر من ساعتين في ذلك القفر الخالي, والليل باسط جناحيه, حتى لاح لهما بدويان يحملان بندقيتين, يمشيان الهوينى, مقبلين عليهما, فجزع المحرم في نفسه وأوجس خيفة, وجعل يستعيذ بالله ويتلو ما تيسر له من آي الكتاب, ومرا بالبدويين ففاتاهما مائة متر أو اكثر, والمحرم يترقف رصاصة من احدهما تتناقل صوتها الأطواد الثابتة, والأودية الرحبة, ولكن البدويين اخترقا سبيلهما مكتفيين بنظرتين القياهما عليه وعلى رفيقه, ولم ينبسا ببنت شفة.وبعد ان امتدت مسافة الشوط بين الفريقين تحرك لسان المحرم في حديثه مع رفيقه يعرض له بذينك المسلحين اللذين كانا يستطيعان سلبه واياه ما معهما من نقود ومتاع, فأدرك رفيق المحرم ما داخله فدعاه الى الطمأنينة وقال: ثق يا سيدي انك آمن حيث سرت. قال المحرم: اذا فما شأن هذين؟ قال: هما عسس في هذا البر.. فعجب المحرم من امر لم يكن يتوقعه, واستمر في حديثه فقال لرفيقه: وهل عهدكم بمثل هذا الضبط بعيد؟ فهز رأسه قائلا: منذ حكم سيدنا (يقصد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه).@ عندما ذهبت لحج بيت الله الحرام في اوائل ذي الحجة من عام 1353هـ كانت شهرة ابن سعود قد سبقته الى اعتباره الرجل الذي أمن الحج الى بيت الله الحرام بما لم يسبق له نظير بعد ان كان الحج يساوي رحلة الذاهب إليها مفقود والعائد منها مولود, وكان المسلمون الذاهبون الى الحج يتوقعون الاستشهاد ويعدون العدة قبل سفرهم.. وكانت حكايات لاتصدق فقد كان الحاج يذبح كما تذبح الشاه على مرأى ومسمع من الناس فلا يستطيع احد ان ينبس ببنت شفة الا اذا اراد ان يلحق به وكثيرا ما يقتل الحاج لسرقة ما معه, وحينما يكتشف القاتل ان القتيل لايملك اكثر من ريال ويعاتب لقتله مؤمنا من اجل ريال كان جوابه: (الريال احسن منه)!!@ تداعت الى خاطري هاتان الصورتان.. وانا ارقب مواكب الايمان تتجمع على صعيد عرفات تغشاهم السكينة.. وتغمرهم الطمأنينة.. ومن ثم وهي تتجه الى مزدلفة في طريقها الى منى.. فأسرعت انقلها بالحرف الواحد.. الأولى من كتاب (ما رأيت وما سمعت) لمؤلفه (خير الدين الزركلي) رحمه الله.. والثانية ذكرها د. ساعد العرابي الحارثي في كتابه (الملك عبدالعزيز رؤية عالمية) على لسان أحمد حسين المفكر العربي المعروف.@ كانت الاسئلة تتراقص في ذهني وأنا أعيش هذه الأجواء الايمانية التي لا رفث فيها ولا فسوق.. ولا جدال: ترى لو لم يجعل الملك المؤسس أمن الحاج واداء النسك بيسر.. وطمأنينة في طليعة أهدافه وهو يوحد هذا الكيان الكبير.. هل كان لهذه الصورة الأخاذة ـ بعد توفيق الله ـ ان تتشكل جزئياتها على هذا النحو وهؤلاء الحجاج الذين قدموا من كل فج عميق امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى.. واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم للفوز بالجنة والنجاة من النار كما وعدهم الحبيب المصطفى (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) هؤلاء الحجاج هل كان يمكن ان يبلغ عددهم عشر معشار الذين وقفوا على صعيد عرفات الله الاسبوع الماضي؟@ بدأ الملك عبدالعزيز مسيرة عطاء شاملة وشهد عهده ـ رحمه الله ـ وعهود خلفائه من بعده سنوات ازدحمت بشتى الانجازات.. والخدمات من اجل هذه الغاية النبيلة فحقق المعجزات على ارض الواقع دون من أو أذى.. بثقة المؤمن.. وعزيمة القائد لتبرز حقيقة جعلتها المملكة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم عند اصابع.. وسمع.. وبصر كل انسان.. وصخرة عنيدة تتكسر عليها الوان الاكاذيب.. والتضليل.. والافتراءات ومحاولات التشكيك التي يروجها من في قلوبهم مرض.. رغم ارتدادهم كل عام على اعقابهم خاسرين!! كتلك التي تستثمر حوادث الازدحام عند الجمرات او في الطريق اليها, كما حدث في سوق العرب, نتيجة مخالفة التعليمات.. أو بعض الحوادث العارضة.. وهي محاولات مكشوفة للعيان.. ومعروفة المقاصد والاهداف تكشف الاقزام في حجمهم الطبيعي لكن ماذا تقول في الهوى عندما يتسلط.. والغرض حين يستبد؟@ ومع أن الأمن سيد الموقف.. وعلامة بارزة في كل موسم حج منذ ان شرف الله القيادة السعودية بخدمة المقدسات.. وضيوف الرحمن التي دأبت على التعامل مع الحوادث الطارئة بالتحليل.. والدراسة ومعالجة الأسباب المؤدية اليها وفي طليعتها الاخلال بالتعليمات الأمنية.. والمرورية.. وارشادات السلامة.. فجاء من بين أبرز انجازاتها التوسعة التاريخية للحرمين الشريفين والتوسعة المتتالية لساحات الرجم.. والمراقبة الدقيقة للخطط المعتمدة.. واستكمال مشروع الخيام المقاومة للحريق في منى هذا الموسم بتكلفة تجاوزت المليار ريال كرد فعل علمي وعملي لتجنب حوادث الحريق الطبيعية.. والتلقائية الناتجة عن تدني مستوى الوعي لدى بعض الحجاج.. وعدم التقيد بتعليمات السلامة ناهيك عن الأنفاق.. والجسور.. والطرق الدائرية كشأن الدولة دائما ازاء ما تستطيع تحقيقه دون محظورات شرعية وهي التي تغلبت على بعض المشاكل والصعوبات بعد الحصول على فتاوى شرعية تجيز الحلول التي ارتأتها.@ ومع التغطية الاعلامية للحج جاءت هذا العام في مستوى التطلعات الا ان ما سمعت.. وقرأت.. وشاهدت عن انطباعات ضيوف الرحمن مباشرة يمثل عندي الحقيقة اشد ما تكون وضوحا.. لمستها في تعابير الوجوه.. وثنايا الكلمات.. ومن خلال الدموع.. مشاعر.. وانطباعات تلقائية.. لا مجاملة فيها.. ولا تصنع.. او تكلف.. لا رياء.. ولا سمعة اشادت.. واثنت.. وشكرت.. ورفعت اكف الضراعة بإخبات وتبتل الى رب العزة والجلال سائلة المزيد من العزة والمنعة لهذا الوطن قيادة.. وحكومة.. وشعبا لان عزة الاسلام من عزته.. وأمن واستقرار المسلمين في مشارق الارض ومغاربها من امنه واستقراره.@ لقد شرفت المملكة ـ كما يقول خادم الحرمين الشريفين.. وسمو ولي عهده في كلمتيهما الى حجيج بيت الله الحرام بمناسبة عيد الاضحى المبارك (بخدمة مقدسات المسلمين في مكة المكرمة.. والمدينة المنورة فنذرت نفسها للقيام بهذا الواجب على اتم وجه واكمله راجية بذلك رضا الله عز وجل ثم توفير مايسهل على الحجاج اداء نسكهم.. وبذلت قصارى الجهد في اداء هذه المهمة بانشاء مشاريع عملاقة هدفها خدمة حجاج بيت الله الحرام ومعتمريه وزوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومرتاديه.. ومازالت المملكة سائرة بعون الله على هذا المنوال مثابرة عليه امتثالا لأمر الله عز وجل.. واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وخلفائه الراشدين).