محمد الحرز

محمد الحرز

كيف واجهت الأديان الثلاثة : اليهودية والمسيحية والإسلام تحديات الحداثة؟ السؤال يحيلنا إلى آخر هو: في أي تخصص من الدراسات والمناهج تقع إجابة السؤال السابق؟.هناك إجابات عديدة, في بعض الأوساط الفكرية, قاربت هذه المسألة وفق خيارات منهجية متباينة استفادت كثيرا من تطور المعرفة العلمية والفلسفية والتاريخية والإنسانية, بحيث لم يشكل هذا التطور سوى الجانب المعرفي والابيستيمولوجي من التحدي الذي فرضته الحداثة على الأديان.أما الجانب الآخر منه فهو يرتكز كما هو معروف تاريخيا بالاكتشافات والفتوحات والازدهار التجاري والتجريب العلمي.الجانب الأول هو وثيق الصلة بالسؤال المطروح.فالإصلاح الديني كان هو الاستجابة الطبيعية لهذا التحدي لكن درجة الاستجابة تختلف من دين إلى آخر, لكنهم جميعا عبروا هذا التحدي من زوايا مختلفة ورؤى متعددة.فمنذ الإصلاح الكنسي كان الغرب المسيحي يوسع من إدراكه لفهم الظاهرة الدينية بوصفها كذلك , ويحاول التفريق بين الدين كطقوس وشعائر وبينه كظاهرة تاريخية تخضع للبحث العلمي ومناهجه,بينما في الديانة اليهودية والإسلام لم تكن هناك مؤسسات كهنوتية يمكن وضعها تاريخيا بالمقابل مع الإصلاح الكنسي المسيحي. المساران مختلفان رغم أن اليهودية تنظر إلى المسيحية بأنها مكملة لها ,يشفع لهما التاريخ المشترك والخصائص والسمات الاجتماعية الواحدة,غير أنها عبر تاريخها لم تتحول إلى نظام سلطة حكم بعد السبي البابلي والشتات, مثلما حدث للمسيحية في ظل الدولة الرومانية في القرن الرابع الميلادي عندما أصبحت الدين الرسمي للدولة.ناهيك عن الإسلام الذي شهد تاريخه أنظمة حكم مختلفة جميعها كانت تحكم باسم الإسلام وتدعي تطبيق تعاليمه القرآنية المنزلة.أما عندما بدأت تعصف بأوروبا تحولات فكرية فلسفية بالدرجة الأولى تحت تأثير المدرسة الرشدية والسينيوية في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي كانت سلطة البابا في روما تمثل سلطة مطلقة,التحالف معها كان مطلب ملوك أوروبا وأمرائها.هذه الوضعية التاريخية حتمت لا حقا المواجهة بين هذه النزعة من التحولات التي تغلغلت في أذهان شريحة من المتعلمين وبين سلطة الكنيسة,بحيث لم ينقض القرن السادس عشر حتى بدأت تخرج إلى العلن بوادر الإصلاح الكنسي بقراءة مختلفة للعهد القديم على يد مارتن لوثر وكالفن.أما اليهودية فقد ظلت تمارس طقوسها في حالة انغلاق شديدة على الذات بسبب الحس المأساوي الممتلئ بها تاريخيا منذ الشتات, وكذلك تمزق وعيها بين هذا الحس من جهة وبين فكرة الخلاص التي سيطرت على الذهنية اليهودية باعتبارها عودة الدولة اليهودية المنتظرة.لذلك مسارها التاريخي لم يصطدم بالتحدي الحداثي الفكري كما هو في المسيحية,على الرغم من أن أغلب المفكرين الذين قادوا مسيرة الإصلاح ضد سلطة الكنيسة كانوا من أصول يهودية كسبينوزا على سبيل المثال لا الحصر.لكن ثمة فرق بين أن تواجه سلطة دينية ضمن نظام مؤسساتي محكم,أو تواجه الدين مجردا من هذه السلطة.المواجهة الأولى كما هي في المسيحية ,المواجهة الأخرى إن وجدت تاريخيا يمكن قياسها على الديانة اليهودية.أما الإسلام فقد كانت صورته عن نفسه تحيل على القوة والاحترام والاعتزاز بالذات,وبالتالي ليس في حاجة إلى الآخر كي يتعرف على مواطن ضعفه المحتملة في المراحل التاريخية المقبلة .فمن عاش في ظل الدولة العثمانية في أوج قوتها أيام محمد الفاتح لن يتصور أن يكون مستقبل الإسلام والمسلمين بهذا الانحطاط والضعف اللذين شهدتها القرون اللاحقة.إذن الغاية التي نهدف من ورائها لهذا العرض التاريخي المختصر هو تبيان المسار التاريخي الذي جاءت منه فكرة الإصلاح,خصوصا الظروف والعوامل الجيوسياسية (تاريخ الحملات الصليبية,وجود العرب المسلمين في الأندلس,تنامي قوة العثمانيين) وكذلك الانفتاح الفكري على مكتسبات العرب في الفلسفة هي التي مكنت أوروبا في تسريع وتيرة الإصلاح بينما عصر الأنوار وما تلاه من أحداث له أسبابه المباشرة-من قبيل الاكتشافات والفتوحات والطرق التجارية كما قلنا سابقا- التي تختلف نوعا ما عن أسباب تطور فكرة الإصلاح نفسها, والتي بالتالي يمكن أن يقال عنها انها فكرة تطورت من داخل الفكر الديني المسيحي نفسه بمعزل عن الأنوار.لذلك وبالإحالة إلى السؤال السابق,ماذا يمكن أن نستنتج؟ أولا- يصعب ربط الحداثة بالإصلاح الديني.إن الوعي بالإصلاح الديني سابق على الوعي بمكتسبات الحداثة سواء على مستوى المفهوم أو الواقع.لقد جرى هذا الربط لا حقا حتى تكتمل صورة الحداثة الغربية ويتم ربط مفاصل الإصلاح الديني بالثورة العلمية والفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شهدها القرن الثامن عشر والتاسع عشر,وكأنه ربط يلغي من تاريخ أوروبا أثر المخاضات الأولى التي تسببت في نشوء فكرة الإصلاح خصوصا عواملها الخارجية كما أشرنا إليها سابقا.ثانيا- بالنسبة للإسلام نجد أن المشاريع الإصلاحية التي جاءت بعد عصر النهضة العربية,أي عصر التحرر من الاستعمار وبناء الدولة القطرية,والتي قاربت فكرة الإصلاح انطلاقا من فكرة الحداثة لم يكن افتراضها صحيحا,فضلا عن كون فكرة الحداثة نفسها في الذهنية العربية إبان هذا العصر كانت بمثابة العقيدة الإيديولوجية في التنمية.لم يجر تجاوز هذا التصور للحداثة الغربية الذي رسخه مؤرخو القرن التاسع عشر الأوروبي.حيث توقفت بعض المشاريع العربية في حدود فهمها للحداثة عند حدود معارف هذا القرن.ثالثا-وفق هذا التصور للأزمة في فهم واستيعاب تاريخ الحداثة وتحدياتها نرى أن هناك على الجانب الآخر تراكما معرفيا في المناهج والعلوم الإنسانية تتيح للباحث بما لا يقبل الشك ,سابقا لم تتح له مثل هذا التراكم , أن ينفتح على جملة من الحقول المعرفية والإنسانية.فتاريخ علم الأديان المقارن قطع شوطا كبيرا في فهم الظاهرة الدينية من وجهة نظر تاريخية بحتة( دوموزيل , ميرتسيا إلياده) , وتاريخ علم نفس الأعماق قطع شوطا كبيرا في فهم ظاهرة الإيمان والشعور الديني, وهكذا في بقية الحقول الأخرى.خلاصة ما نود قوله هو على خطابات التجديد والإصلاح الخروج من شرنقة الحداثة التي ورثتنا مفاهيم ما زالت تدور في حلقة مفرغة كمفهوم الاجتهاد على سبيل المثال باعتباره مفهوما لا يذهب إلى العمق في فهم الظاهرة الدينية وإنما هو مفهوم نفسي يبحث عن التوازنات بين المتطلبات المعاصرة والشعور الإيماني عند الإنسان.هذا لا يفي للباحث الذي نهمه المعرفة والمعرفة فقط.Mohmed_z@hotmail.com