عبدالله السفر
جرعة العنف التي يقدمها التليفزيون, وتسخو بها اشرطة الفيديو المغلفة كهدايا مسمومة تتفجر في روح المتفرج عليها.. هذه الجرعة لا تقف عند حد. ومثل اي ادمان فان الجرعة وقت أن تصل الى مستوى معين من تعود الجسم عليها تغدو ضعيفة التأثير وفاقدته, واذن لابد من زيادة الجرعة ليستمر الجسد في مسارب النشوة وظلالها الخادعة. وهكذا جرعة العنف المنصبة من التليفزيون واشرطة الفيديو حيث تتطور بين آونة واخرى سبل ارضاء المشاهد وتحفيزه على المتابعة والانفتاح على مشاهد اكثر دموية, صاخبة تسيل بالجثث والحرائق والحوادث الفظيعة. ان افلام هيتشكوك امام امطار هوليوود المرعبة واستوديوهاتها العاملة في انتاج الكوارث الفيلمية, لاشيء ومجرد لعب عيال لا يليق ان يبدد المرء امامها وقته فهذه لا تثير الا ابسط المشاعر.دوامة الانفعالات الضاجة بالعرق هي ما ينتج الآن, تحبس المشاهد في كرسيه ويخيم عليه الخوف حتى لو كان في قاعة بها آلاف المشاهدين والمشاهدات. وهذا موطن فخرهم, تعميم الخوف في رداء الرعب والعنف. سوى ان هذه الجرعة, مهما وصلت حيلها الفنية ومهارتها التقنية تظل خيالا لا ينفعل له الا الصغار الواجب تحذيرهم كما تفعل محطة (سبيس تون) مع اطفالنا المنبطحين - في حضرة التليفزيون - على تسلياتهم العابرة يمضغون الشيبس ويتأملون مصائر ابطال الديجيتال: (هذه المشاهد خيالية, ولا تنطبق الا على افلام الكرتون).هم الآن لا يريدون خيالا. الجرعة الادمانية كف مفعولها وينبغي ان يتفتق الذكاء البشري عن حل جديد ومسرب يعيد لجرعاتهم الفعالية والتأثير. ذلك ان الخيال يظل خيالا فالدم صبغة حمراء. والجثث ممثلون يتماوتون. والحرائق بيوت كرتونية صغيرة ضخمتها الحيل السينمائية. والرياح مؤثرات صوتية.. لماذا لا يحملون الواقع الى اشرطة. ينصبون كاميراتهم في مواقع تلتقط المشاهد الحية بكل عنفها وطاقتها التدميرية الهائلة.. في كل مكان تدور الكاميرات ترصد الدم الحقيقي.. الكوارث الحقيقية.. المصائب الحقيقية. كل ما تراه يملك ثراء الحقيقة, وتأثيرها الصاعق.هنا تكون تغذية العنف, زيادة جرعته, بمثابة قطعة ثلج تلقى على المشاعر والاحاسيس تخدرها, تقتلها.. الاثر الصاعق هو ان نتحول, نحن المشاهدين والمشاهدات, الى كائنات غير انسانية, فاقدة طبقة الوجدان والجدير بهذه الطبقة ان تكون في المجال الانساني تتقدم بفعلها الحي. لكنها للاسف كائنات معطلة, توقفت عضلة مشاعرها عن النبض. باتت مفصولة عن محيطها الاجتماعي, لا يحركها شيء, لا رعب, لا دمار, لا كوارث. بل تطلب المزيد والمزيد. غدونا دراكولات لا تستمر حياتهم الا بجرعة الدم من رقاب الضحايا.(الجفاف الانساني) يضرب القلب. لا يزال البث الحي يمطر ماءه الاسود.