محمد الحرز
لقد ختمنا مقالة الأسبوع الماضي بالقول: ان الإسلام كان هو الاستثناء الوحيد من جميع الأديان الذي بقي ممانعا ضد التحول إلى العلمنة , وذلك دائما حسب آرنست غلنر الباحث الانثروبولوجي, التي نوقشت آراؤه وأبحاثه من طرف العديد من المفكرين العرب من قبيل سامي زبيدة, رضوان السيد , ادوارد سعيد.لكننا نريد هنا فقط أن نتوقف على الجزئية التي ألمح فيها إلى جملة الأسباب التي أدت إلى مثل هذه الممانعة دون التورط في استدعاء هذه النقاشات إلا بما يتصل بسياق موضوعنا الذي نتناوله هنا. يعتمد غلنر في تفسيره لهذا الاستثناء على فرضيتين:الأولى تخص مفهوم الأصولية في تصورها العام, والأخرى ترتبط بنظرية العلمنة التي جرى استخلاصها من التطورات التي طالت عموم المجتمع الغربي. لقد وجد غلنر ان أفضل فهم للأصولية في إطار موضوعه إنما يتم من خلال ما تنكره.وما تنكره الذهنية الأصولية هو ما فرضه العلم على ذهنية المجتمعات الحديثة من تصورات وقناعات بدلت موقف الإنسان من الدين والإنسان والحياة,فعلى سبيل المثال ان التناقض الذي تراه الذهنية الأصولية بين سفر التكوين وآرائه في خلق العالم وأصل الإنسان من جهة , وبين الآراء العلمية من النظرية الداروينية إلى الفيزياء الكونية الحديثة من جهة أخرى, هو ليس تناقضا أو بتعبير غلنر نفسه لا يسبب « أي قلق للمؤمنين الحداثيين» فهم يفترضون- أي هؤلاء المؤمنين- أن الآراء العلمية والمعتقدات الدينية رغم تناولها على ما يبدو نفس الأحداث فهما تقعان في الحقيقة على مستويات مختلفة تماما ,بل جرى التعبير عن كل منهما إجمالا كما يعتقد البعض بلغة مختلفة , ضمن أنواع متميزة أو منفصلة من الخطاب».أي بعبارة موجزة ان الاختلاف يقع على مستوى التعبير وليس على مستوى جوهر العقيدة أو المعتقد. لا يخفى أن هذا التصور الذي يطرحه غلنر للأصولية كي يقيس عليه احد أسباب الممانعة الإسلامية هو تصور يرتبط أساسا بالتاريخ الكنسي المسيحي في تصديه للفرضيات العلمية التي تطورت بالضد منه منذ القرن السادس عشر.رغم أننا نتفق معه تماما على توصيف حالة هذه الممانعة التي تطال بعض المجتمعات الإسلامية.وما يثير الانتباه أيضا هو اختزال التاريخ الإسلامي بجميع طوائفه وتشعب معتقداته وشعوبه من خلال قراءته عبر مفاهيم مسقطة عليه من الخارج كما هو حال مفهوم الأصولية.فغلنر حينما يستعرض التاريخ الإسلامي كي يصل في النهاية إلى أسباب الممانعة يرى أن المسألة المركزية التي ينبغي التركيز عليها هنا هو انشطار الإسلام إلى : إسلام نخبوي رفيع يمثل ثقافته العليا الفقهاء والعلماء والمفكرون, وإسلام شعبوي قاعدي تمثل العامة ثقافته الدنيا.ولم تكن حسب رأيه أن الحدود فاصلة بين الاثنين , بل كانت في كثير من الأحيان يكتنفها الغموض والالتباس.وعليه فقد بنى تحليله على هذه الفكرة مستندا على استنتاجات عديدة من أهمها أن الإسلام الرفيع كان يعيش في المراكز الحضرية وتعتنقه طبقة التجار البرجوازية وهي عادة ما تكون أقرب إلى التقيد بالقوانين والنظام والقواعد والتعلم والابتعاد التام عن التفكير اللاعقلاني والعاطفي في نشر الدين.أما أتباع الإسلام الشعبوي فهم إذا ما عرفوا -كما يقول-» القراءة والكتابة فإنهم يستخدمونها لأغراض السحر وليس كأداة للعلم والثقافة وهم يركزون على الشعوذة أكثر من التعلم والنشوة والوجد والانجذاب الصوفي أكثر من التقيد بالقانون والنظام».ويستخلص بعد ذلك أن الإصلاحية الإسلامية حاولت عبر الإسلام الرفيع أن تؤسس لنظام أكثر صفاء وطهرا.لكنها ما أن تؤثر على جمهور الإسلام الشعبوي بفعل ثورتها وهيجانها حتى يخمد وهج هذا التأثر عندما تعود هذه الجموع إلى قبائلها في البادية. وتظل تتكرر هذه المحاولات مرة بعد أخرى دون انتصار الواحدة على الأخرى.وهو بهذا التحليل لا يشير إلى شواهد أو أمثلة.بحيث يظل كلامه مختزلا إلى حدود العصر الحديث الذي يرى أن القومية من جهة والاقتصاد الحديث لعبا دورا كبيرا بجانب هذين الشقين من الإسلام .لكن دعوني أركز على ما تبقى من مساحة في هذه المقالة على أوجه الإشكالات التي يثيرها مثل هذا التحليل.وكما قلنا ان التوصيف الانثروبولوجي مطلوب في فهم التاريخ الإسلامي ولكن ليس شرطا يمكن من خلاله الاقتصار عليه في فهم الإسلام ولا أحد يدعي ذلك, اللهم إلا إذا كانت فكرته لا تساعد على فتح الباب للنقاش والحوار,بما تشتمل عليه من يقينيات.يمكن يجوز الاقتصار عليه في حالة المجتمعات التي لم ترتبط مجتمعاتها بحضارة معينة كشعوب الآزتيك أو الشعوب الاسترالية أو الشعوب الافريقية. وليس القصد هنا إضفاء قيمة عليا في التفريق بين هذا الشعب أو ذاك في عملية تبريرية في حال استخدمنا هذا المنهج أو ذاك.لكن كل ما في الأمر أن الحضارة الإسلامية من التنوع والتعدد والتباين في الطوائف والفرق والأحداث يصعب معها حصر ظواهرها دون الاعتماد على جدلية الفكر والواقع على اعتبار أنها حضارة نص بامتياز. وللحديث بقية.Mohmed_z@hotmail.com