محمد الحرز

محمد الحرز

يتحدث ريتشارد سوذرن في كتابه «صورة الإسلام في أوروبا القرون الوسطى» الصادر عن دار المدار الإسلامي وترجمة رضوان السيد, عن جملة من العوامل التي ساهمت في توجيه فهم الأوروبيين للمسألة الإسلامية وطريقة تفكيرهم فيها من قبيل اضطراب صورة الإسلام بسبب الأثر المتناقض الذي تركه هذا الأخير في نفوس الأوروبيين:ما هو هذا الدين؟ هل هو نوع من الهرطقة؟ أم هو فرقة خارجة عن المسيحية؟ هل هو من إحدى علامات القيامة واليوم الآخر أو علامة ظهور السيد المسيح وليس نبيه سوى الدجال.لكنهم من جانب آخر يرون بعض رجالاتهم باعتبارهم عظماء ويجلونهم ويوقرونهم كابن سينا والفارابي وابن رشد ,وكذلك توقيرهم الصفات الفروسية في شخصية صلاح الدين الأيوبي فكيف ينتمي هؤلاء العظماء إلى دين هو مجرد وهم من أوهام نبيه ؟!!وهناك أمور أخرى تضاف إلى مثل هذه المتناقضات من قبيل موقف القرآن من النبي عيسى فهو يعترف به كنبي مرسل من الله بينما ينكر حادثة الصلب وعقيدة التثليث .فكيف يتم التوفيق بين هذين الرأيين في نظر أوربيي القرون الوسطى.وقد قسم سوذرن هذه الصورة إلى ثلاث حقب وجعل كل حقبة في فصل مستقل من فصول الكتاب وسماها على التوالي:-حقبة الجهل..2-حقبة التعقل والأمل..3-لحظة الرؤيا .وقد قسم حقبة الجهل الى مرحلتين:الأولى تمتد من القرن السابع الميلادي الى حدود القرن العاشر الميلادي أما الثانية فتمتد من القرن العاشر إلى منتصف القرن الثاني عشر.الأولى تختص بحقبة الجهل الناجم عن ضيق الأفق بالمعنيين الفكري والجغرافي والأخرى حقبة الجهل الناجم عن أوهام المخيلة المتسعة.ما يخص الحقبة الأولى فقد اعتمدت في معرفتها بالإسلام على مصادر العهدين القديم والجديد وقد كان العالم الكبير(بدا) المحيط بأسرار الكتاب المقدس هو من ربط المسلمين بهذا الكتاب من خلال سفر التكوين حيث نسب العرب المسلمين إلى إسماعيل.أما المصادر الأخرى فهي مصادر اسبانية المنشأ أول ما نشأت في منتصف القرن التاسع الميلادي وبالتحديد على يد اثنين من المسيحيين هما أويلوغيوس الكاهن والآخر هو باول ألفاروس حيث كان الدافع وراء التصدي للمسألة الإسلامية الإحساس بقوة الإسلام وتطوره وازدهاره من جهة وضعف المسيحيين في قرطبة من جهة أخرى وإقبال الكثير من أبناء المسيحيين على تعلم اللغة العربية وآدابها وفنونها.هذا الإحساس بفقدان القيم المسيحية وضعفها إزاء قوة الإسلام هو ما حرك هذين العالمين،حيث قرنا الإسلام بالمسيح الدجال.لكن بعد قيام الحملة الصليبية الأولى وعودة فرسانها إلى أوروبا برزت في هذه الأثناء في منتصف القرن الثاني عشر بعض الأساطير والطرائف عن الشرق والإسلام ونبيه ,وعلى حد تعبير ريتشارد سوذرن تشكلت بعض ملامح هذه الصورة بين مواقد النار في الشتاء حين كانت تروى مثل هذه القصص والخرافات بحيث انتشرت في الأديرة والقرى والكنائس.والغريب كما يذكر المؤلف أن المناطق التي انتشرت فيها هذه القصص عن الشرق هي نفسها المناطق التي انتشرت فيها قصص وأساطير شعبية عن الملك شارلمان ومآثره وعن معجزات السيدة العذراء والتاريخ الأسطوري لبريطانيا وأساطير فيرجل..إلخ. ثم لاحقا بعد القرن الثاني عشر جاء الشعر الشعبي الأوروبي ليرسخ مثل هذه الأساطير في الأجيال اللاحقة جيلا بعد جيل.أما الفصل الثاني وهو حقبة التعقل والأمل:فقد لاحظ المؤلف أنه بجانب الصورة التي ارتسمت للإسلام ونبيه بوصفها صورة تملأها الخرافات والأساطير والسحر, برزت صورة أخرى كانت تشير إلى أن هناك تعقلا في فهم صورة الإسلام واستدل على ذلك باثنين:أولهما فلهلم مالسبري الذي رغم رواياته التي كانت تحوي الكثير من المغالطات والمخيلة السحرية إلا أنه أول من انتقد في ذلك القرن(الثاني عشر) الصورة التي كانت تقول ان المسلمين يعبدون محمدا كإله، بل إنه رسول كواحد من الرسل.والآخر هو بطرس دالفونسو.ويمكن إضافة فرايزنغ الذي فند أيضا مثل هذه الصورة.أما إذا ما تقدمنا قليلا في هذا القرن إلى حدود 1143م, فقد حدثت فيه أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية على يد روبرت كتون وذلك بإيعاز وتموين من رئيس دير كلوني البطرس المبجل.وقد كانت أهدافه تتمحور حول فكرة أن الإسلام ليس سوى هرطقة من إحدى الهرطقات المنتشرة في أوروبا, بل كان يرى أن الإسلام هو منبع هذه الهرطقات وأصلها ,وإذا ما حاربناه فكريا من خلال معرفته فإن ذلك أجدى في مواجهته.لكن عمله هذا لم يلق صدى يذكر عند العلماء والمفكرين،بل تراجعت آثاره وحلِ محله صورة المخيلة والأوهام, ويرجع المؤلف الأسباب إلى الظروف السائدة في تلك الفترة أولها داخلي فقد تزايدت الضغوط على الكنيسة الكاثوليكية بسبب تزايد الهرطقات وتزايدت معها مواجهتها.والآخر تزايد الخسائر الخارجية التي منيت بها الحملة الصليبية في ديار المسلمين.حيث الاستشعار بالخطر فوت الفرصة لفهم الإسلام وتعقله.وما أن أطل القرن الثالث عشر الميلادي حتى ظهر على مسرح التاريخ المغول فأحدث بظهوره تأثيراَ على أوروبا القرون الوسطى في إدراكهم للعالم الخارجي،وكذلك تأثير على صورة الإسلام والمسلمين في أذهانهم ومن بين هذه الآثار التي تجسدت الإحساس الكبير بالآفاق الجغرافية التي تضم بشرا آخرين. قبل هذا الظهور لم يكونوا يتصورون وجودها.وكذلك إدراك القواسم الدينية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين بإزاء عقائد وثنية غريبة عليهم كعقائد المغول.الإحساس أيضا بأن الخطر الإسلامي سوف يقضي عليه الهجوم الكاسح للمغول على ديارهم.إذن كل هذه الآثار جعلت من الأوروبيين في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ينقسمون على أنفسهم بين مؤيد للحملات الصليبية وتزويدها ودعمها،وبين رافض لها لعدم كفاءتها وجدواها،والبحث عن طرق فكرية وعلمية لمحاربته.Mohmed_z@hotmail.com