محمد الحرز
بعد حضوري مؤتمر الأدباء الذي أقيم في الرياض كانت الفرصة سانحة لي لمتابعة الحوار الوطني الذي أقيم في الأحساء بحضور جملة من الأسماء المهمة في ثقافتنا المحلية. هذا الحراك الثقافي السريع على مدى أسبوعين متتاليين أفضل ما فيه ليس الجلسات الرسمية التي عادة ما تتسم بالطابع البروتوكولي والمشهدي, وإنما اللقاءات الجانبية والأحاديث بين أطراف المثقفين هي في حد ذاتها ما يشكل السمة الأبرز في مثل هذه المناسبات، لأسباب سأحاول في هذه المقالة التركيز عليها من جميع جوانبها. لا بد من الإقرار بوجود أسباب شبه طبيعية كامنة في طبيعة الحوار الإنساني نفسه. ما المقصود بهذا الكلام ؟ نحن نعلم تماما أن الحوار شرط ضروري للوجود الإنساني وبدونه يفقد الإنسان جزءا من ذاته, بل يفقد كل معنى لحياته. هذه الضرورة نحن نمارسها على مستوى السلوك الاجتماعي والثقافي دون وعي مسبق بها على الإطلاق. ولا أعتقد أنه يوجد تمايز بين البشر في ذلك. هذه المقدمة تفضي بي إلى طرح التساؤل التالي : لماذا الحوار حين يرتبط بالمثقف يصبح ذا قيمة بارزة وأهمية كبرى وسوى ذلك عند أغلب فئات المجتمع لا صدى له ولا حضور؟ هل لأن المثقف مختبر لإنتاج الأفكار المؤثرة في ذهنية المجتمع, وبالتالي المؤثرة على سلطة القرار السياسي؟ ثم لنقل : من يعطي مشروعية وأهمية الحوار المرتبط بالمثقف؟ هل هي مؤسسات الدولة التي لها دور بارز في هذا المجال؟! قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه التساؤلات تجيب عن أحد جوانب المسألة باعتبارها جزءا من تاريخ علاقة المثقف بالسلطة، لكن جوانبها الأخرى تتصل ـ على ما أظن ـ بطبيعة الوطن جغرافيا وتاريخيا, وهي طبيعة أثرت بصورة كبيرة على فاعلية الحوار بين الناس، ناهيك عن فاعليته بين المثقفين. هذه الحقيقة نشير إليها بأسى. فقد فرض الوضع الجغرافي على ثقافة الوطن أن تعيش كل منطقة بمثقفيها بمعزل عن الأخرى رغم الدور الذي لعبته المؤسسات الإعلامية والثقافية بإمكانياتها وطاقاتها التي تعتبر الشريان الذي يغذي ثقافة الوطن. هذا التباعد الذي فرضته الجغرافيا ولد فراغا في التعرف عن قرب بشرائح واسعة من أبناء المجتمع, ومن ثم التعرف عن عاداتهم وتقاليدهم ومصدر ثقافتهم, إلى آخره من السمات العامة التي تسيج حياتهم اليومية. هذا الفراغ لم ينحسر بما يكفي كي تنتشر مفاهيم عقلانية وموضوعية في فهم ثقافة الاختلاف بين أبناء البلد الواحد, رغم الجهود التي بذلت في هذا الإطار من طرف مؤسسات الإعلام والثقافة والتعليم خصوصا الاستراتيجيات التي وضعت بعد أزمة الحادي عشر من سبتمبر, وما خلفته من تداعيات على المجتمع والدولة. انطلاقا من هذا الوضع تكمن ـ كما يبدو لي ـ الأهمية التي يجدها المثقف في تلك الحوارات واللقاءات التي تدور بينهم على هامش اللقاءات الرسمية، بل أجد أن الدفع بهذا الاتجاه هو مطلب حقيقي عند جميع المثقفين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الثقافية، وهي قضية مهمة في دعم الحوار الوطني وانتشاره أفقيا بدلا من الاقتصار في المناقشة والطرح على نخب صغيرة. بمعنى آخر أن الحوار في قضايا الوطن الكبرى ـ كما رأينا مثلا في النقاش الذي دار حول الخطاب الثقافي السعودي الذي أقامه مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في الأحساء ـ لابد أن تكون حلقاته متصلة لا انقطاع فيها بدءا من الدوائر الضيقة للنخب المثقفة إلى الفضاء المفتوح للناس جميعا. والسؤال هنا : كيف يتحقق ذلك؟ يبدو لي إشراك المؤسسات الرسمية الأخرى وحتى غير الرسمية من جمعيات خيرية وحقوقية والتنسيق معها في طرح مثل هذه القضايا على مدار السنة هي من أكثر الاستراتيجيات فاعلية في دعم ثقافة الحوار الوطني , وبالتالي لن تكون مقتصرة على نخب ثقافية منتقاة من هذه المنطقة أو تلك، رغم أن مثل هذا التوجه في طرح القضايا التي تمس الوطن لا يتعارض إطلاقا مع رؤيتنا لمفهوم الحوار الوطني، بل أجد أن إشاعة مثل هذه الروح للحوار والتشجيع عليها ودعمها الموجه إعلاميا هو إحدى أهم المقدمات التي تفضي إلى فهم ثقافة الاختلاف من العمق. إن ما يعزز هذا المطلب في الرؤية إلى الحوار الوطني من هذه الزاوية هو جِدة المصطلح ونشوؤه في الخطاب الثقافي السعودي، قبله كان جل المثقفين من جميع التوجهات منشغلين بقضايا لا تمس هموم الوطن مباشرة وإن مسته فمن بعيد كقضايا الحداثة إزاء الدين والأدب، بل قد نجد الاحتقان والتشنج واللغة الإنشائية تطغى على الكثير في مثل هذه القضايا، ناهيك ـ بالطبع ـ عن بعض المثقفات اللاتي وجدن أنفسهم فجأة أمام الوطن وهمومه . وعندما جاء الحوار الوطني لم تسعف المثقف لا الخبرة في الحوار الذي هو أصلا لم يتمرس عليه , ولا الخبرة في طرح قضايا الوطن التي تساعده في تفعيل مثل هذه الحوارات، لذلك على ما أظن فإن الحوار المرتبط بالوطن هو مشروع حياة لكل مواطن يعيش على هذه الأرض, حيث إن من حقه أن يتحاور في شؤون وطنه مع أي مواطن آخر دون عوائق نفسية وثقافية واجتماعية وهذا هو الهدف الأسمى للحوار حول الوطنMohmed_z@hotmail.com