كروش في المصعد
لن أخبركم شيئا تعرفونه من قبل، فالكل يعرف مضار السمنة. وسأتحدث من زاوية عِلم أحبه.. متغافلاً ما أعلنته منظمة الصحة العالمية بأنه الآن تزايد عدد الوفيات بسبب السمنة الزائدة. قلت لكم إني مولع بعلم الأنثربولوجيا، ومن فروعه المسلك الإنساني تجاه ظاهرة ما.. والتعليقات التي صارت عند باب المصعد أشعلت فتيل ذاك الفضول. وكان لا بد أن يذهب ذهني نحو النظرة السلوكية والانطباعية عن السمنة في العالم، أو بعض دول العالم. لدينا، ليست السمنة عيبا، خصوصا بين الرجال، وبالذات أشدها خطرا على القلب، الكرش، فالعرب عموما عندهم هذه اللازمة: “الكرش علامة وجاهة”.. وهنا المدلول الأنثربولوجي؛ في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان لا يوجد مسؤول في الإدارات العثمانية في البلاد العربية، إلا ويتقدمه كرش عظيم مٌهاب، بل يقال إن “أرطُغْلي” باشا اشتهر بأنه كان يصنع كروشا صناعية، ربما هي التي خولته ليكون باشا في الأصل.. لا يجوز، ولا يصح، أن تمثل البابَ العالي السلطاني للدولة التي فتحت الخافقين بخصرٍ ضامر.. يا عيب الشوم!
تزاحمتْ الكروشُ عند بوابة المصعد الضخم، ثم بدأ كل واحدٍ يضحك على كِرش صاحبه.. ثم التعليقات.. والقهقهات.. إلا أن القلبَ لا يقهقه وهو مثقل بطبقات متراكمة من الكوليسترول المعتبر أيضا
وحين في أوروبا توضع الميداليات والزينة على الصدور، إلا أن العثمانيين وموظفيهم الكبار تتدرج الأوسمة من الأكتاف إلى الكروش، ودائما ما يتدلى سلسالٌ فخم براق من بين طيات الكرش للخارج ليُربط بالأزرار الذهبي للمعطف الأسود، ويكون الأزرارُ مشدودا من رقبته حتى الاختناق.. ثم يُفسَح جانبا المعطف عن الكرش ليبرُزَ متنزها متقدما الجسد الرسمي المهيب.. وفي فنلندا، نعم بلاد النوكيا، كانت هلسنكي تسمى عاصمة السِمان، وهي أهم المدن وأكبرها، وكانت السمنة علامة رُقي مدني وغذائي في بلد كانت تعيش على دسم البحر، وغائلة الجوع والنحافة المزرية تعم معظم سكانها من الحطابين.. لذا كان من علامات التمويه بالتميز أن تلبس الثياب طبقات، خصوصا عند الشباب ليوهموا أنهم من هلسنكي، أو درسوا هناك، أو لهم ارتباطات قوية بالعاصمة السمينة.وفي الصين القديمة تعتبر السمنة ثقلا، في بلدٍ قائمة تقاليده على خفة الحركة وعشق الأشياء المنمنمة، إعاقة الحركة عندهم من أعمال الشيطان - الأرواح النارية الشريرة إن أردت الاصطلاح الطاوي- لذا فإن من تقفز له، أو لها، قطعة شحم صغيرة في الخاصرة أو تندلق المعدة ولو مليمترا للأمام فمعناه أن الشريرَ الناري الشيطاني قد بدأ يجد مقرا في ذاك الجسد، وربما عزل عن القرية والأكيد أنه لن يشارك في موسم البذر ولا الحصاد.. أما إن ثقل الجسم فهو الشيطان نفسه، لذا كان التاجرُ الصيني سميناً في غالب الأحوال في عهود الصين الوسطى..! . الحكايا كثيرة، واكتشفت أن الصفحة لا تناسب الموضوع.. ليست سمينة!