د. مبارك الخالدي
( أغورافوبيا) هو رهاب الأمكنة المفتوحة: الشوارع، الميادين، الأسواق..الخ. ويبدو أن هذه الأمكنة ليست مصدر ذعر للذات الأغروفوبية/ الأغروفوباوية بسبب أنها مفتوحة، إنما لكونها أمكنة يحدث فيها التقاء وتماس الذات بالآخر الذي هو المصدر والمسبب الفعلي للذعر، إذ تجد الذات نفسها في مواجهته قلقة ومحرجة ومخترقة بالعجز. رهاب الأمكنة المفتوحة في جوهره، من وجهة نظري، هو رهاب الآخر- فرداً وجماعة- الذي لابد من الالتقاء به إذا ما تجرأت الذات الأغروفوباوية على التواجد في أي مكان مفتوح. تبدو هذه الفكرة واضحة في المصطلح/ الكلمة (agoraophobia) المركبة من كلمتين: الثانية تعني (phobia) رهاب، والأولى (agora) وتعني مكان التجمع، ( السوق) في اليونان القديمة، السوق المكان الذي يتواجد فيه الآخرون باعداد كبيرة وبهيئات وطبائع وأفكار ولغات وسلوكيات متعددة ومختلفة. ان رهاب السوق كنموذج للأمكنة المفتوحة هو خوف من الآخرين الذين يكتظ بهم، وليس السوق هو مصدر الذعر إذا. ان سبب انذعار الذات هو الآخر المختلف وليس الأمكنة ذاتها. وفق هذا المنطق تكون ( الأغورافوبيا) نتيجة وأثراً، أي رهاب متولد من رهاب آخر، هو رهاب الآخر (xenophobia)، الذي اتسع مداها ليشمل وينسحب على الأمكنة ليكتسب اسماً جديداً ويرتبط بالأمكنة التي من الحتمي أن تصطدم فيها الذات بالآخر الذاعر، لهذا تلجأ إلى الابتعاد عن هذه الأمكنة التي يكمن فيها الآخر متربصاً، مؤثرة العزلة والانغلاق اللذين يمدانها بالشعور بالأمان والطمأنينة، ويقيانها ألم الشعور بالعجز والحرج. يبدو منطقياً اعتبار ( الأغورافوبيا) رهاب الانفتاح على الآخر وليس رهاب الأمكنة المفتوحة لمجرد أنها مفتوحة فقط، لأن ما يسبب الذعر هو الانفتاح على الآخر الذي يجعل انفتاح هذه الأمكنة ممكناً أو حتمياً. أخلص من هذا إلى طرح رأي مفاده أن "الأغورافوبيا" يمكن أن يتسع مـداها وتتجاوز الحالات الفردية لتكون ظاهرة مجتمعية ولكن ليس لأسباب مرضية نفسية، إنما لأسباب ثقافية وسياسية، أو لأسباب سياسية في قناع ثقافي. فطوق العزلة التي تطوق بعض المجتمعات نفسها به هو مؤشر إلى وجود رهاب الانفتاح على ما هو خارج حدود أمكنتها وفضاءاتها، رهاب الانفتاح على فضاء الآخر بما يزخر به من ثقافات وديانات مختلفة ترى أن التماس معها خطر هائل يهدد بتقويض ثقافاتها أو ما تؤثر أن تطلق عليه خصوصيتها. ولدرء خطر الآخر المتوهم في الغالب أو ليس خطراً على الإطلاق إذا كانت تملك ثقافات قوية وراسخة ونابضة بالحياة وبقوة التجدد والبقاء، تلجأ هذه المجتمعات، أو بتعبير أكثر دقة، القوى التي تحمل لواء الحماية والوصاية وبكل الوسائل والأجهزة المتاحة المتعددة إلى ترويج رهاب الانفتاح على الآخر وتهويل خطر ثقافته كتوطئة ومبرر لما يفرض من إجراءات لسد كل الثغرات والأبواب والمنافذ التي قد تتسلل منها ثقافة الآخر لتعيث بالثقافات المحلية إفساداً وإذابة وتدميراً. انها سياسة سد الباب الذي تدخل منه الريح الذي جعل شرطاً لتحقق الراحة، حتى ولو كان سد الباب سوف يؤدي في النهاية إلى موت من في البيت لنفاد الأكسجين. لكن إلى جانب هذه ( الأغورافوبيا) المجتمعية بمعناها المقترح (رهاب الانفتاح على الآخر) المتولد من رهاب الآخر (زينوفوبيا)، يتواجد في هذه المجتمعات حالة إعجاب وانجذاب xenophilia-) زينوفيليا) إلى ما يمتلك الآخر وإقبال عظيم على منتجاته واختراعاته واستيرادها بشراسة وشراهة. حالة تناقض كبيرة تتفاقم يوماًَ بعد يوم خاصة بعد أن تبدد وهم تحقق العزلة المطلقة المأمولة بعد التطور الهائل في الاتصالات التي جعلت الآخر وثقافته تتسلل إلى غرف النوم. ان الخروج من حالة التناقض تجاه الآخر بكل تأثيراتها السلبية لن يتحقق إلا بتقبل حقيقة أن العالم يتسع للجميع، وأن الانغلاق لن يؤدي إلا إلى الموت ثقافياً وحضارياً، والاقتناع بأهمية مناقشة موضوع ما يسمى بالخصوصية من منظورات مختلفة متعددة لأنه من المستحيل وجود اتفاق على مفهوم واحد لها، حتى لا تكون هذه الخصوصية وهاجس الحفاظ عليها عقبة كأداء في الطريق إلى مستقبل مضيء حافل بكل ما يجعل الحياة كريمة تليق بالإنسان.