نجيب عبدالرحمن الزامل

مسئولُ جائرٌ يمكنه فعل ذلك!

مرّ المعلـِّمُ «كونفوشيوس» في مِشـْيتِهِ السنويةِ، ومعَه ثلةٌ من تلاميذهِ، على تلـَّةٍ بريفِ بعيد، ورأوا امرأةً تنوح: فسألها المعلمُ: «لمَ تبكين؟» قالت: «أبكي على شاهدِ قبر أبي الذي افترسَه الوحش».

.. وفي العام الذي تلاه، رأى المعلمُ وطلابَه نفسَ المرأةِ تنوحُ بذاتِ المكان: وسألوها: «لمَ البكاءُ هذه المرّة؟» قالت: «أبكي زوجي الذي افترسَه الوحشُ»، والعام الذي تلاه، رأى المعلمُ وتلامذته المرأة تنوح بذاتِ المكان، فسألها المعلمُ: «لم النواحُ هذه المرّة ؟» فأجابت تختنق بكاءً: «أبكي ولدي الذي افترسَه الوحش» فردَ عليها المعلمُ: «ولماذا لم تغادروا هذا المكان من أول ما هاجم الوحشُ؟» فأجابتْ: «لأنّ لا يوجد مسئول ظالم هنا» فالتفت المعلمُ لحوارييه قائلا : «سجِّلوا، الوحشُ أرحم من مسئول جائر»

أقوى شهوات الدنيا شهوة السلطة، سيدةُ الشهواتِ بلا منازع، تحرث لإنبات زرعة الفساد في القلوبِ الصالحة، إلا ما حماها اللهُ بقوةِ الإيمان، ومحبةِ الإنسان، وثباتِ العقل والضمير والوجدان. على أي مسئول ذي سطوةٍ وقرار أن يسأل نفسَه: هل أقبل أن أكون أشد فتكاً من الوحوش؟

ومن لا يعرف العالِمَ الكبيرَ «الحسن بن الهيثم»، الذي يذكره العالمُ ببحوثه الأصيلةِ التي ضمَّها كتابه الأيقوني (المناظر ) بعلم البصريات، وشرِبَتْ أوروبا من نَهْلِهِ سبعة قرونٍ متتاليةٍ. العالِمُ البريطاني البولندي الأصل «ج. برونوفسكي» قال عنه في كتابِهِ «ارتقاءُ الإنسان»: «أروعَ رجال العلم في التاريخ لم يكن يونانياً، ومصدرُ حكمي هذا هو أني مهتمٌ بتصويرِ الأجسام في الفراغ، وقد فهمه اليونانيون خطأ، وفهمه تماماً كما نعرفه بعصرنا عالِمُ فذٌ غريبُ الأطوارِ يدعى «ابن الهيثم»، العقلُ العربيُ الأصيلُ الذي أنجبته الحضارة العربية للعالم». ألم تلاحظوا أن «برونوفسكي» وصف ابن الهيثم بالغريب الأطوار؟ رجعتُ أبحث عن تاريخ ابن الهيثم الشخصي، ووجدته بالفعل خالط عقلـُهُ الخبالُ والذهانُ لفترةٍ طالت لسنوات؟ عجيب، أليس كذلك؟ كان يعيش بكنف «الحاكم بأمر الله» بمصرَ الذي أُعْجِبَ بقدرتِهِ الهندسيةِ الإنشائيةِ (بما نصف اليومَ مهندساً مدنياً، وهو أول من اقترح إنشاء سدٍّ بقرب هضبةٍ في أسوان للتحكم في مياه النيل!) ثم تصدّى له مسئولٌ ببلاط الأمير وكي يتجنب شرَّه، ادّعى ابن الهيثم الجنون! وتأمَّلوا هنا: كيف لرجلٍ مثل ابن الهيثم أن يتخلى عن أعزّ ما لديه وهو عقله؟ أمرٌ فوق التصديق.. إلا مسئولٌ جائر يمكنه أن يفعل ذلك، ويثبت «ابن الهيثم» أن الوحشَ أرحم من مسئول ظالم.. فليس أكثر وحشيةٍ من وحشيةِ ادعاءِ حياةٍ بلا عقل.لكل رجل، ولكل امرأة قصص عن ظرفٍ جائر من مسئول جائر، وأحيانا مجموعة من الناس، بل مجتمع، بل أُمَم. كلما كبِرتْ دائرةُ سلطة المسئول الظالم كثر الذين يرمون أنفسهم في أحراشٍ تدور بها الوحوشُ الضاريةُ الجائعة أيا كانت صورتها.هل المسئولون أناسٌ سيئون؟ لا. وتعميمٌ مثل هذا لا يجوز، ولا يمكن أن يكون. ونتذكر قولاً شائعاً: تفاحةً فاسدةً تُتلفُ حمولةَ تفاحٍ نَضِر.   أقوى شهوات الدنيا شهوة السلطة، سيدةُ الشهواتِ بلا منازع، تحرث لإنبات زرعة الفساد في القلوبِ الصالحة، إلا ما حماها اللهُ بقوةِ الإيمان، ومحبةِ الإنسان، وثباتِ العقل والضمير والوجدان. على أي مسئول ذي سطوةٍ وقرار أن يسأل نفسَه: هل أقبل أن أكون أشد فتكاً من الوحوش؟