د. أمل عبدالله الطعيمي

المرأة بين خيال رجل وواقع آخر

غابت المرأة عن واقع البحتري وحضرت في الخيال حضوراً قوياً في اليقظة والمنام. دللها كثيراً في مطالع قصائده أياً كان غرضه الشعري، فبكى لها ومنها واشتكى وأوقد مجامر الألم في قلبه وعقله. وأظهر هوانه عليها وشعوره بالنقص من صدودها وحاول أن يجد مبررات لذلك الصدود ليدفعنا للتعاطف معه والإشفاق على ضعفه فقد كان متخبطاً في مشاعره معها.ذاك وادي الأراك فاحبس قليلاً مقصراً من صبابة أو مطيلاًقف مشوقاً أو مسعداً أو حزيناأو معيناً أو عاذراً أو عذولاهكذا كانت ولا تزال المرأة في الشعر العربي متأرجحة بين خيال شاعر وواقع آخر أما هي فتبحث عن مزيج من رقة البحتري وصلابة أبي تمام وهو مزج لا يتحقق في كثير من الأحيان.في وادي الأراك امرأة ما يتوقف لأجلها ويوقِف، وقد اختلطت عليه المشاعر فلا يدري أيها يبدي أيفصح أم يكبت؟ أيظهر الشوق؟ أم السعادة؟ أو ربما الحزن، وإذا كان لا يحدد مشاعره فهو بالتأكيد لا يعرف ما الذي يريده من صاحبه في هذا الوقت أيعينه أو يعذره أو يتلبس دور العاذل!! فهو حائر منساق خلف مشاعر الحب وانفعالاته متعددة الوجوه ويبدو أنه لا يعرف سوى أهمية ذلك الشعور في حياته ولا يريد انتزاعه من نفسه، وإن كان يريد إجابات شافية على ما يجده من حيرة ومعاناة حاول أن يجد لها تعليلات مقنعة لفشله في الاستمتاع بمردود الحب.أتراها دامت على العهد أم منعادة الغانيات نقض العهود... من عذيري منها تبدد لبيبين عاداتها التي تستعيدخلطت هجرة بوصل ففي القرب بعاد وفي الوصال صدودومن مبرراته التي حاول اقناع نفسه بها هو شيبه فقال:شيب أرتني الأسى أوائلهفليت شعري ماذا تُري أُخرهصغر قدري في الغانيات وماصغر صباً تصغيره كبرهمحاولاته للتعليل باءت بالفشل وما زال يغرق حتى الثمالة في كأس الحب رغم ترويع مشاعره بتتالي الصدمات من دلال وصدود وهجر، وكلما أمعنت المرأة في ايذائه استغرق هو في الاستجارة بها منها فبكى حتى صار البكاء استجابة طبيعية ومذهباً له ولم يجد دواء إلا في أحلام اليقظة والمنام..ترى مقلتي ما لا ترى في لقائهوتسمع أذني رجع ما ليس يسمعويكفيك من حق تخيل باطلتُرد به نفس اللهيف وترجععاقر الخيال ليشفى وكان كمن يتحكم في أحلامه من فرط اتكائه عليها كمنقذ له. في حين كان أبو تمام لا يرضى ببديل عن الواقع فنفسه الصلدة لا تضعف ولا ترضى بالضعف والتخاذل حتى وإن خفق قلبه والتهبت أشواقه! كان يرفض تأثيرها فاعتبرها عائقاً لا بد أن يتجاوزه. وهو لا ينكر أن جمالها يستهويه ولكنه لا يريد الفوز به مقابل الاستغناء عن طموحاته.ذات الثنايا الغر لا تتعرضيعند الفراق بمقلتين وجيدما ابيض وجه المرء في طلب العلاحتى يسوّد وجهه في البيدوقد كان صاحب سطوة جبارة على ذاته في التوجيه والإرشاد والتهذيب فيمارس مع نفسه تربية ذاتية شديدة وصارمة ولا يترك مجالاً لها لتتردد أو لغيره أن يتدخل في قراراته:إذا المرء أبقى بين رأييه ثلمةتسد بتعنيف فليس بحازمبل إنه لطالما عنفها وسخر منها بأثر من استجابته لتاريخ المرأة وصورتها النمطية في الثقافة الإنسانية عامة:خذي عبرات عينك عن زماعيوصوني ما أزلت من القناعأقلي قد أضاق بكاك ذرعيوما ضاقت بنازلة ذراعيهكذا كانت ولا تزال المرأة في الشعر العربي متأرجحة بين خيال شاعر وواقع آخر أما هي فتبحث عن مزيج من رقة البحتري وصلابة أبي تمام وهو مزج لا يتحقق في كثير من الأحيان.