صحيفة اليوم

محمد العلي

من التمهيد الواسع في الحلقتين السابقتين اريد الوصول الى القول بوضوح وبصوت عال: ان ثقافتنا كلها قائمة على ازدراء الخطأ، وادانة من يصدر عنه، بل جرحه جرحا نفسيا لا شفاء منه. ابتداء من البيت، وليس انتهاء بالجامعة، بل الى ما بعدها، اي انه انغرس حتى الشريان في سلوكنا الاجتماعي.تعريف الجرجاني، وهو تعريف يحمل قسمات تراثنا كله يعتبر الخطأ الصادر عن اجتهاد خطأ مقبولا. ولكن ثقافتنا الان التي تراكم عليها غبار الزمن.. تعتبر حتى الخطأ في الاجتهاد محرما، اما من يقوم به فهو الذي سيساق الى جهنم خالدا فيها.ماذا تسمي هذا الموقف؟ هل تسميه العمى المطلق؟ لابد لك من ذلك، لان من يعتبر الاجتهاد فعلا ضالا يحكم على العقل البشري ان يتحول الى مجرد حجارة. لماذا؟ لان الاجتهاد ماهو الا محاولة للخروج من نفق او مأزق ما نحو ضوء اوسع، فاذا حرم فمعنى ذلك تحول الانسان الى حجر.من الاثار النفسية الرعناء التي تركها ازدراء الخطأ في سلوكنا المعرفي اثر بالغ الخطورة هو اعتبار نقد اي فكرة نقدا شخصيا لصاحبها. ان الرأي عندنا جزء من صاحبه. جزء من قسماته، فاذا تجرأ احد على نقده فمعنى ذلك انه يستحق ان يرمى بوابل من الصفات السوداء تماما مثل رمي المحصنات بالزنا.ان المعرفة تراكمية، ولذلك انزاحت كلمة الابتكار، او كادت، لتحل بدلا منها كلمة (الاضافة) التي تعني ان المبدع لابد ان ينتج افكاره ضمن (سياق) على الاقل، والسياق لا يصنعه فرد واحد ابدا مهما بلغ من مستوى الابداع.لابد اذا اردنا ثقافة منتجة، من جعل الخطأ، حين يكون اجتهادا، من القيم الرفيعة التي بمراعاتها تزدهر كل حقول النشاط البشري.. ان من لا يعترف بالاجتهاد، حتى لو كان خطأ لا يعترف بقابلية العقل البشري على تجاوز نفسه. وهذا ما يكذبه التاريخ كله، والامم التي تقدس الخطأ كلها.