د. وسمية عبدالمحسن المنصور
التطبيب مهنة انسانية نجلها ونحترمها، هذا الاحترام ممتد عبر التاريخ منذ النشأة الاولى للانسانية على الارض، وقد اكتسب الطبيب احترامه في العصور الغابرة من حاجة الانسان وعجزه امام اسرار البدن وخرائطه الفسيولوجية، فهو يخشى اقتحام هذا المجهول لان الخطأ قد يؤدي الى الموت لذلك أوكل المجتمع قديما هذه المهمة لنخبة استطاعت بالوراثة او بملكات خاصة او بالدجل ان تشبع احتياجات الناس بكأس الوهم حينا، ومصل الصدفة وبالتوفيق احيانا.بلغ الطبيب في تلك المجتمعات البدائية مكانة من التقديس، أحاطته بجلال من الغموض لا يجرؤ الناس على استكناه اسراره، او مخالفة اوامره، او معاودته في رأي. فهو الساحر، وهو رجل الدين، وهو صاحب قرار الحرب والسلم وهو حلال المشكلات الاجتماعية وراسم الخطط الاجرامية، وفوق ذلك فلديه علاج لكل الامراض فلا تخصص ولا تخصيص. وورثت المجتمعات الحديثة هذا التقديس وقادها الضعف النفسي إلى الابقاء على شيء من تلك الصورة القديمة في شخص الطبيب الشعبي الذي يحقق ما لا يحققه الاختصاصي، حتى لو كان هذا الطبيب الشعبي ممن حلم بالليل واصبح ينادي بوصفة هاتفه بها طائف وفيها سر الاسرار، مثل هذه الوصفة تلبي شعور الناس بالنقص والعجز فيقبلون عليها ويثقون بها ويتداولونها على انها حقيقة ناصعة لا يأتيها الباطل من امامها او خلفها، بل قد بلغ الامر ان يشد الناس الرحيل الى اطراف الارض واصقاع قريبة او نائية طلبا لطبيب شعبي سمع عنه انه يداوي، ويتعلق القلب بالامل على الرغم من ان الاطباء الاختصاصيين كثيرون في موطنه.مع تطور المجتمع المدني وسيادة لغة العلم اصبح الطب علما مقننا، وكان للعرب فضل السبق في ريادة هذا العلم وغيره من العلوم في تلك الازمنة الذهبية التي مازلنا نبكي عليها.وبعد تطور التقنية وتعقيدها تفرعت الاختصاصات الطبية فلم يعد الطبيب ذا شمولية كما كان عليه في المجتمعات المنصرمة، وهذا مما زاد الامر تعقيدا فأصبح الذهاب للطبيب مرتهنا بامكانية وجود الاختصاصي وليس بمدى حاجة المريض الملحة، واصبح الطبيب العام - مع كل احترامنا وتقديرنا لتاريخه العلمي وما امضاه وانفقه من جهد - عاجزا عن تلبية احتياجات الناس، وكثير من انجازاته الناجحة تكون في توفيقه بأن يحولك الى اختصاصي كبر الامر او صغر. قد يكون في هذا فضيلة فلا ادعي اني قادرة على فهم ابسط الامور في هذه القضايا الطبية المعقدة لكن ان يتوجه شاك بأمر عارض بين ويضخم الطبيب العام القضية، ويدخل على المريض الرعب، فيزرع في نفسه الهواجس والوساوس خصوصا اننا مازلنا نحمل في جيناتنا هذا الهلع الانساني ولما نشف من تلك النظرة السوداوية تجاه الذي قد يأتي او لا يأتي مما يملكنا ولا نملكه.يحدث هذا كثيرا وكل منا لديه قصص كان بطلها، او نظرها عن اخطاء الاطباء حوله، او استمع لها من رواة عاشوها وهي ما سنعرض نتفا منها في لقاء لاحق.*جامعة الملك سعود - الرياض