د. أمل الطعيمي

العدالة المشوهة

 تنادي العلوم الحديثة في تطوير الذات -وسبر أغوار النفس وإنسانية الإنسان- إلى حب الذات، فمن لا يحب نفسه لن يكون قادراً على حب غيره، ولكن هذا الحب هو حب صحي وليس مرضيًا نرجسياً، هو حب يقود صاحبه للخير بكل أشكاله العطاء، والنور، والتسامح، والشفاء من العلل الداخلية ليكون جميلاً من الداخل ومشرقاً ومتناسقاً مع نفسه ومع كل ما حوله. فمن يحب نفسه حباً صحياً لا ينتقي من يتعامل معهم بحب ويناصب الآخرين العداء، فحبه لا يرتبط بمنفعه لأنه يحب الإنسان في الآخر قبل لونه وجنسه ومكانته ولغته، فهو حب مطلق لا يدفعه لمزاحمة الآخرين والتضييق عليهم؛ ليبرز مستقلاً وينجح منفرداً، وهو حب لا يدفع بصاحبه لادعاء الأباطيل لنفسه والاستفادة منها ضد الآخرين.هذه النوعية نصادفها في كل مكان وزمان بمواقف مختلفة، هؤلاء من يصنعون ميزانًا خاصاً بهم للعدالة التي لا تتحقق إلا من منظورهم المواصفات كثيرة ودقيقة غير أنها واضحة وجلية. حتى من يتحايلون ويثقون جداً بذكائهم يفوتهم أن الأذكياء من حولهم كثر، يقرأون تصرفاتهم ويغربلون أقوالهم التي يعتقدون أنها ما أن تخرج من فمهم حتى يصدقها الجميع!! هؤلاء بارعون في خداع أنفسهم ويعتقدون أنهم يبرعون أيضاً في خداع الآخرين، ولكن هذا لا يحدث دائماً لأنهم وإن أبدعوا في كلمات الحب والتسامح والعطاء فالمواقف سرعان ما تكشف خيانتهم لأنفسهم قبل غيرهم، وكلما صادفت أحداً من أولئك تتمنى لو أنه يرى نفسه بصدق ليكون صادقاً مع غيره لأنهم يعيشون في بحر متلاطم من الخديعة الذاتية والغيرية، وهؤلاء قد ينجحون ويحققون مآربهم في كثير من الأحيان، ولكن فرحتهم الظاهرة بالنجاح المزيف لا تغطي عورة إحساسهم الداخلي بالهزيمة.قبل أيام كنت في قاعة الامتحان أراقب، فطلبت احدى الطالبات قلم الرصاص فأحضرته، وقبل أن أصل إليها قالت من بقربها: (عادي آخذه) فقلت لها: طبعاً لا ليس عادياً!! فقد أغاظني حرصها على نفسها ورغبتها في سلب الأخرى حقها مع أنها واثقة أنها عندما تطلبه سيلبى طلبها فالامتحان في أوله. تابعت إبداء رغبتها غير آبهة برفضي فراحت تنظر لزميلتها باستعطاف لتوافق فما كان من الأخرى إلا أن وافقت بمنتهى التسامح والإيثار والفهم بأن القلم سيصل إليها بالتأكيد، فاضطررت بدوري أن أعطيها القلم وأنا ممتعضة من سوء تصرفها، وبقيت الأخرى بانتظارها لتنتهي أو انتظار قلم آخر. الأولى غلبتها أنانيتها، والثانية غلبها تسامحها وشتان بين الاثنين، رغم بساطة الموقف إلا أنه يشير بوضوح إلى تنامي الأنانية عند الأولى ورغبتها في حيازة ما لها وما ليس لها لدرجة أنها عندما انتهت نسيت أن تطلب إعادة القلم إلى الأخرى حتى فوجئت بها تطلبه!! هذه النوعية نصادفها في كل مكان وزمان بمواقف مختلفة. هؤلاء من يصنعون ميزانًا خاصاً بهم للعدالة التي لا تتحقق إلا من منظورهم، فعلى سبيل المثال ذاك الذي يسابقك ليحصل على دورك في العيادة أو الطابور أو استخدام جهاز ما كالمصعد مثلاً تكون العدالة في نظره لا تتحقق إلا عندما يحصل هو قبلك على ذاك الشيء، وهو على استعداد أن يسمعك ومن حولك عشرات الأعذار التي يبرر بها لنفسه وللآخرين أسباب إصراره للحصول عليه قبلك دون أن يفكر ولو للحظة بأسبابك أنت التي قد تكون مقنعة أكثر، وأحدها وأهمها أنه وصل قبلك.. ولكنه في غفلة عن الآخرين وحقوقهم وظروفهم واهتماماتهم أمام اهتمامه المتعاظم بحقوقه هو ورغباته هو. والغريب أن هؤلاء بقدر ما يظهرون به من مظهر الثقة بالنفس وتقدير الذات إلا أنهم في الحقيقة عكس ذلك تماماً، ولكنهم في شغل عن حقيقتهم ليكتشفوا هذا الضعف فيهم، ويوقنوا أن نفوسهم عارية ومكشوفة أمام الآخرين ولكنهم لا يشعرون.