الحوبة والكارما
«يقول الشاعر: لسانك لا تذكر به عورة امرئفكلك عورات وللناس ألسنوعيناك إن أبدت إليك معايباًفدعها وقل للناس أعين» عندما كنا صغاراً كان أهلنا يمنعوننا من التعييب على أحدهم وخاصة بالشكل، فلا نذكر الصفات الخَلقية عند الآخرين بالسوء للسخرية منهم والإنقاص من شأنهم؛ خوفاً من أن نبتلى بمثل تلك الصفة أو غيرها مما قد يكون أمراً يعيبه فينا الناس فيما بعد ويتوقفون عنده لدرجة تمنعهم عن النظر إلى الفضائل الأخرى في الإنسان، وذلك المنع من قبل أهالينا ما هو إلا استجابة لقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ١١ الحجرات. وكثيراً ما كنا نسمع حكايات عن ضرر السخرية وما يترتب عليها من عواقب لأن الأمر مرتبط بالفعل ورد الفعل، فكما تدين تدان قولاً أو عملاً. سواء كانت السخرية مرتبطة بالشكل أو بالأخلاقيات، ومن هنا جاء الدعاء الشائع عند سكان الخليج العربي عندما يساء إليهم من أحد ما (عسى حوبتي ما تعداك) بمعنى أن تحل عليك العقوبة من الله جزاء ما فعلته بي. متى نلتفت للأخلاق الجميلة التي دعانا إليها الدين الإسلاميهذا المفهوم موجود عند أصحاب الديانات الأخرى ويسمى الكارما. وله المعنى نفسه الذي نعرفه كمفهوم عام، ولكن بالتأكيد هناك اختلاف كثير في التفاصيل الدينية. ولهذا من الهام جداً أن نعيد قراءة تلك الآية القرآنية لنفيق من سكرة الضحك على الآخرين التي يغرق فيها كثير من الناس عندما يسمعون أحدهم يسخر من آخر بطريقة تثير الضحك، ففي ذلك المعنى القرآني القيم ربط الأمر بالإيمان وحالة صاحبه البائسة عندما يختل ايمانه بعد السخرية من أحدهم لدرجة تتطلب التوبة من ذلك العمل الذي يحمل بين طياته الظلم؛ ظلم النفس وظلم الآخر. لأن النهي في الآية جاء على هذا «وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ» فحتى أنت لا تملك الحق في الإساءة لنفسك حين تلمزها بوصف ما ينتقص من قدرها أمام الآخرين. هل رأيتم كيف يعتني ديننا العظيم بنا؟ وهل رأيتم كيف نبتعد عن هذه التفاصيل الجميلة فيه لأن أهدافنا ضعيفة جداً يتعلق الأمر بأن نوصف بخفة الدم!!اليوم وللأسف صار إضحاك الآخرين يقوم على السخرية الجارحة التي تنال من الناس في أشكالهم، ويشارك في هذا الأمر كثير من الناس، وكأن الأمر مجرد نكته!! فيتكلمون عن فم هذا وأنف ذاك بأسلوب وقح ومنفر، والمؤسف أن التمثيل في المسرح والسينما والتلفزيون أسهم في إذكاء هذه الروح الساخرة بتلك الوقاحة المرفوضة على ألسن ممثلي الكوميديا الذين يضحكون مشاهديهم على حساب الآخرين، فكم من مرة جعلوا من البدناء وسيلة للإضحاك، وكم من مرة ارتفعت القهقهات على الأقزام، وهم لا يعدمون الوسيلة إلى الإضحاك المبني على الإساءة للآخرين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد تعداه إلى الأشخاص العاديين الذين يميلون إلى إضحاك ناس على حساب غيرهم، ففي مواقع التواصل الاجتماعي تجد أن تلك السخرية متداولة بشكل غريب جداً، ولم يسلم منها حتى الأطفال، ففي الانستغرام مثلاً تجد من يضحك الناس على عيب ما رآه في طفل ما وضعت أمه صورته بفرح ليفاجئها أحدهم بتعليقات سمجة فيها من الإساءة شيء كثير. وتجد من يسخر من شاب يقدم فيديوهات مميزة تطرح أفكاراً جميلة وتدعو دعوات أجمل للحب والسلام والعطاء ولكنهم لا يهتمون بكل ذلك ويركزون على فم ذلك الشاب الذي لم يعجبهم ووجدوا فيه مادة للسخرية منه والإساءة إليه. السؤال متى نلتفت للأخلاق الجميلة التي دعانا إليها الدين الإسلامي بالقوة نفسها التي تجعلنا نكرر الدعوة لتطبيق عبادات كثيرة لا يجهلها أحد ومع هذا نظل نكررها ونعيدها مراراً وتكرارًا مع أنها معروفة وواضحة للجميع ولا ينقصنا بعدها إلا أن نعضدها بأخلاق عالية وجميلة تصفو بها الحياة وتستقيم بها تعاملاتنا، ولماذا لا نرى تركيزاً عليها ولو بمقدار نصف التركيز على غيرها خاصة فيما يتعلق بالأعراف التي حولناها إلى دين؟.